في متحف التاريخ الطبيعي بمنطقة "لاروشيل" الفرنسية، توجد زرافة محنّطة باسم "زرافة الملك شارل العاشر"، لكنها في الواقع "زرافة محمد علي" التي أهداها إلى الملك.
قصتها مثيرة، يتمتع زوار المتحف بقراءة تفاصيلها وكيفية وصولها إلى فرنسا، إضافةً إلى اهتمام الملك بها شخصياً، وتكليفه أحد أكبر علماء عصره بالإشراف على نقلها من مارسيليا إلى باريس.
كانت تلك أول زرافة تصل إلى باريس عبر التاريخ من إفريقيا، وشكّلت حالةً اجتماعية وثقافية لا مثيل لها في عشرينيات القرن التاسع عشر.
فقد ظهر ما يُعرف بـ"موضة الزرافة"، حين ارتدت النساء على رؤوسهن ما يشبه قرني الزرافة، واستُخدم نقش جلد الزرافة في موضة الثياب وأثاث المنزل وكل ما يُمكن أن يتخيله عقلك.
فما قصة زرافة محمد علي؟
في كتابها "آخر أيام الباشا"، تقدّم لنا الروائية المصرية رشا عدلي إحاطةً كاملة بالحالة السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة خلال الفترة التي قُدّمت فيها زرافة محمد علي باشا إلى الملك شارل العاشر.
تروي عدلي كيف كان محمد علي باشا، وهو حاكم مصر ما بين 1805 و1848، شديد القلق بسبب تراجع علاقته بالأوروبيين إثر مشاركته في الحرب التي شنّتها الدولة العثمانية على اليونان.
فيُرسل بطلب القنصل الفرنسي برناردينو دروفيتي، وهو -بحسب الكتاب- شخصية ذكية ومراوغة، إضافةً إلى كونها فاسدة ويعرف من أين تؤكل الكتف. أرسل محمد علي في طلبه؛ لمساعدته في إيجاد مَخرجٍ له والبحث في كيفية عودة العلاقة مع الفرنسيين إلى مجاريها.
تلمع برأس دروفيتي فكرة غريبة، ويُشير إلى الحاكم، بإرسال زرافةٍ كهدية إلى الملك شارل العاشر، فيعهد محمد علي إلى القنصل بإنجاز هذه المهمة. فيستدعي القنصل كبير صانعي السفن ورئيس النجارين ورئيس المرافئ، ويطلب منهم تنفيذ ما يلزم لإتمام المهمة.
وفي نهاية العام 1825، تم اصطياد زرافتين جميلتين في السودان، نُقلتا إلى الإسكندرية في 1826. وفور وصولهما إلى هناك، أُجريت قرعة من أجل تحديد أي واحدة هي الأجمل لتكون من نصيب فرنسا، على أن تذهب الأخرى لصالح بريطانيا.
بعد ذلك يطلب القنصل من حارسه حسن البربري، وهو جندي سابق في فرقة الانكشارية (وهي قوات مشاة وفرسان من النخبة في الجيش العثماني)، ومن عطير -وهو شاب إفريقي ساهم في اصطياد الزرافة- مرافقة الهدية والاهتمام بها حتى وصولها إلى الملك شارل العاشر.
وصلت زرافة محمد علي باشا إلى باريس بعد مسارَين طويلين، بحري وبرّي، ليشكّل وصولها حدثاً تاريخياً، واكبه الشعب واحتفى به الملك والصحافة. لُقّبت الزرافة بـ"الجميلة الإفريقية"، وقد أخذوها من أمّها في سنّ مبكرة، لتُنقل من الصومال إلى الإسكندرية، ومنها إلى باريس.
رحلة شاقة واستقبال كبير
كانت الهدية إذاً محاولة من محمد علي باشا، والي مصر، لحث فرنسا على وقف معارضتها لجهوده في قمع الثورة اليونانية ضد حكم الدولة العثمانية.
وفقاً لموقع Hyperallergic الفرنسي، لم تكن فرنسا في ذلك الوقت تتمتع بقدرٍ كبير من الاستقرار. فقد خرجت للتو من أحداث الثورة الفرنسية وحروب نابليون، وكانت على وشك الدخول في ثورة يوليو/تموز 1830 التي أطاحت بالملك الجديد.
كانت الزرافة قصيرة القامة، ولم يتعدَّ عمرها الشهرين. ولأنها كانت ضعيفة الشهية، تمّ ترويضها على تناول اللبن، فكانت تتناول 25 غالوناً من اللبن يومياً.
وفي مقالٍ نُشر بجريدة "الأهرام" المصرية عام 2011، توضح الكاتبة أمل الجيار أن الزرافة كانت منقولة من السودان ضمن حاشية مكوّنة من 3 أبقار حلائب مع راعيها لتأمين حاجتها من الغذاء اليومي.
وجهز القنصل الفرنسي، برناردينو، رحلتها على متن سفينة شراعية من سردينيا بقيادة القبطان الإيطالي ستيفانو منارا، الذي خصّص فتحةً في سطح السفينة تسمح للزرافة بالوقوف أسفلها لمدّ رقبتها، من دون أن تضطر إلى أن تحنيها. وقد بطّن الفجوة بالقش؛ لحمايتها من أي إصابة عند اضطراب البحر، وغطاها بقماشٍ يُشبه "الكانفاه"؛ لحمايتها من الشمس والمطر.
بدأت السفينة رحلتها في 29 سبتمبر/أيلول 1826، مع مراسم وداعية وعسكرية، وقد وصلت الهدية الثمينة إلى ميناء مدينة مارسيليا في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.
ولم يكن مسار الزرافة سهلاً، فقد قطعت جزءاً كبيراً من رحلتها سيراً على أقدامها؛ سارت لمسافة 885 كم تقريباً، ورافقها خلال تلك المسافة كلّ من حسن وعطير، ومعهما طبيب بيطري.
وبحسب أوامر القنصل الفرنسي، كان من المهم لحسن البربري وعطير والطبيب البيطري حماية الزرافة خلال رحلتها وإيصالها سالمة غانمة إلى فرنسا، فوفّروا لها معطفاً ضدّ المياه لوقايتها من الأمطار، كما سارت في ما يشبه الموكب لتأمين طريقها.
لدى وصولها إلى مدينة ليون، تواجد نحو 30 ألف شخص لمشاهدتها، قبل أن ترسو في محطتها الأخيرة بالعاصمة باريس عام 1827، حيث استقبلها ملك فرنسا بالورود، قبل إيداعها حديقة النباتات Jardin De Blanc .
ويُقال إن نحو 600 ألف زائر توافد على زيارة الزرافة في أول ستة أشهر فقط، باعتبارها أول زرافة تطأ أقدامها الأراضي الفرنسية.. فكانت كلّ تفاصيلها مذهلة للشعب الفرنسي.
أُطلق اسم "زرافة" على شوارع فرنسية عدة، وأصبحت مادة دسمة للفن الفرنسي حينها وللموضة أيضاً. وكما ارتدت النساء قبعات لها شكل رأس الزرافة، انتشرت رابطات العنق التي تحمل نمط جلد الزرافة. كان اللونان الأصفر والأسود في كل مكان.
وفقاً لموسوعة "وكيبيديا"، أرسل محمد علي زرافتين أُخرَيَن إلى كل من جورج الرابع (ملك بريطانيا) وفرانتس الثاني (إمبراطور النمسا). وكما حدث في باريس، أحدثت الزرافتان ضجة كبيرة في لندن وفيينا.
عاشت الزرافة المُرسلة إلى النمسا في قصر شونبرون، لكنها ماتت بعد أقلّ من عام، وصُنع كعكٌ على شكلها سُمّي بـ"كعك الزرافة" (Giraffentorten)، ولا تزال موجودة حتى الآن. أما الزرافة البريطانية، فقد عاشت عامين فقط في حديقة حيوانات لندن، وتم تحنيطها بواسطة العالم جون غولد.