تحلَّق الأطفال في المخيم حول القِدر الموضوعة فوق الحطب، بانتظار الطعام، يتضوّرون من الجوع.
في القِدر فاصوليا ناشفة… تغلي وتغلي…
وتحت شمس آب (أغسطس) الحارقة، يقف الصبيُّ الجائع يتصبب عرقاً، والحرارة تلتهم ما تبقَّى من جلده الغضّ.. لا شيء يلوح في الأفق سوى بعض الطيور والغربان.. يتنقّل الصبيُّ فوق صخور المخيم يطارد قِطّاً أنهكه البحث عن الطعام أيضاً، ليشغل نفسه عن الشعور بالجوع.
يعود إلى أمّه منهَكاً.. يقترب منها ومن القِدر ويسأل: هل نضج الطعام يا أمي؟ أنا أشعر بالجوع، لا بدّ أن أولاد عمي يشعرون بالجوع أيضاً. تجيب الأمُّ بقلةِ حيلةٍ وصبر طويل: ما زال أمامنا القليل يا حبيبي.. ستأكل حتى تسد جوعك.. وسيأكل أولاد عمّك.. ستنضج الفاصوليا عن قريب.
يتذمّر والدموع تلمع في عينيه: لكنني لا أستطيع الانتظار.. لم أتناول الطعام منذ يومين. لقد وعدتِني أن نأكل اليوم. باستطاعتكِ أن تزيدي الحطب فتشتعل النار بقوة أكبر. هل أبحث لك عن عيدان جافّة؟
تتنهّد بمرارة: لا يا حبيبي.. لا تخشَ.. فقط اصبر قليلاً، وستأكل حتى تشبع.
يبدأ بالتمنّي: أمّي.. هل سنأكل الأرز معها كما في الماضي.. كما كنّا نفعل ببيتنا.. في بلدتنا؟ وهل من الممكن أن يكون لي طبق وحدي؟ لا مانع من أن أشارك سعيد، ولكنني لن أشارك ريم؛ فهي سريعة جدّاً في تناول الطعام، وستأكل ما في الطبق بلمح البصر.
يعكّر صفو الهدوء المصطنع في المخيم، صوتٌ قويٌّ يهزُّ أرجاءه ، وشيء ما يلمع في الأفق الأزرق، تنعق الغربان وترفرف الطيور بأجنحتها بقوّة.. تتجه أبصار الجميع نحو الغبار المتصاعد إلى عنان السماء، ومن بين هذا الغبار ينطلق طفل كالسهم بشعره الأشعث وقدميه العاريتين.. ملامحه متجمّدة، وقلبه ينبض بصوتٍ مسموع.
يشير الصبي بإصبعه: أمي.. من هذا الذي يركض من بعيد؟
ويردّ على سؤاله: إنه سامي يا أمي! إنه يركض بسرعة كبيرة.. إنه يقترب نحونا دون وعي.. سامي خائف يا أمي.. إنه الصوت المخيف يا أمي! لا بدّ من أن شيئاً رهيباً قد حصل!
يركض سامي وهو يغلق عينيه وقطرات العَرق تتناثر على جبينه…
يركض سامي ولا يسمع صوت السماء ولا صوت الأرض.. لا يرى الضوء.. لا يرى الأشياء.. يركض في الفراغ.
يركض باتجاه القِدر.. يصطدم به.. يستفيق..
تتبعثر حَبّات قليلة من الفاصوليا على الأرض، وينسكب الكثير والكثير من الماء..
يبكي سامي بحُرقة.. تبكي سارة، ويبكي أولاد العم.. يبكي الصبيّ.
وتجلس الأم على طرف الصخرة لتمسح دموعها.
تختفي جميع الأصوات.. وتبقى دموع الأطفال، يجتمع أهالي المخيم حول سامي وحول الحلم المسحوق على الأرض القاسية الجافة المتشققة. وينظر طفلنا بأسىً وبحزن عميق إلى السلك الشائك حول المخيم.
السلك الشائك الذي اختزل أحلام الصبيّ في قِدر للفاصوليا.
(من ذاكرة أبي.. بتصرّف)
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.