أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى إزالة موسكو من خريطة ممرات النقل الأوروبية الآسيوية التي تربط الصين بأوروبا. وفي الوقت نفسه، نُفخت روح جديدة في طرق محتضرة منها طريق الحرير البري، يمكن من خلالها نقل البضائع عبر اليابسة الأوراسية، خاصة منطقة آسيا الوسطى دون عبور روسيا.
وفتحت الباب أيضاً أمام زيادة الاتصال الروسي بالشرق الأوسط وجنوب آسيا وجنوب شرقها.
آسيا الوسطى قلب العالم الذي همشته روسيا
وقد تؤدي الأزمة الأوكرانية إلى عودة المكانة التاريخية لمنطقة آسيا الوسطى، حيث كانت تُعد أحد الممرات الرئيسية للتجارة بين الشرق والغرب قديماً قبل أن تصاب بنكسة كبيرة في أعقاب الغزو المغولي، أعقبها نكسة أكبر حينما خضعت للاحتلال الروسي الذي دام ما يقرب من قرنين، وجعلها منطقة مهمشة، سواء في عصر القياصرة أو السوفييت.
ويبلغ عدد الدول الإسلامية التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي 6 جمهوريات، واحدة منها هي أذربيجان التي تقع في القوقاز، والخمس الباقية تقع في منطقة آسيا الوسطى، وهي أوزبكستان، كازاخستان، تركمانستان، قيرغيزستان، طاجيكستان.
بدأ التوغل الروسي في الاقتراب من هذه المنطقة، بغزو خانيات التتر في قازان واسترخان (تقع في روسيا حالياً) التي تقع على تخوم آسيا الوسطى، في القرن السادس عشر، ثم ستغزو موسكو باقي مناطق آسيا الوسطى تدريجياً في القرن التاسع عشر، بعد أن تخوض مع بريطانيا منافسة على المنطقة في القرن التاسع عشر عُرفت باللعبة الكبرى.
وقاومت شعوب آسيا الوسطى الهيمنة الروسية، ولكن موسكو قمعتهم بشدة دوماً، وكانت هذه المنطقة البعيدة مهمشة ضمن الإمبراطورية الروسية، وتعامَل معاملة المستعمرات، ولم تندمج كثيراً في الثقافة الروسية مثل المسلمين من تتار قازن وتتار القرم الأقرب لموسكو، ولكن روسيا استفادت من خيرات هذه المنطقة، خاصة القطن، والنفط الذي ظهر بعد ذلك.
ومع الفوضى والحرب الأهلية التي نشبت مع تأسيس الاتحاد السوفييتي، قمع السوفييت بدورهم ثورات المنطقة بقسوة.
ونظم الاتحاد السوفييتي هذه المنطقة كجمهوريات منفصلة محاولات إدخال تغييرات اجتماعية وثقافية على هذه البلدان، مثل القضاء على الدين ومحاولة إجبار السكان على التخلي عن النمط الحياة الرعوي، الأمر الذي وصل إلى ذبح قطعان ماشية الكازاخ ليتوقفوا عن حياة الرعي، ما أدى إلى موت ملايين منهم.
كما شجّع السوفييت الهجرة الروسية والأوكرانية لكازاخستان، الغنية بسهولها الشاسعة، التي تمثل سلة حبوب الاتحاد السوفييتي بعد أوكرانيا، الأمر الذي جعل الروس أكبر مكون إثني في كازاخستان عشية انهيار الاتحاد السوفييتي.
كانت إحدى سياسات السوفييت الفارقة في المنطقة تقسيمها والتركيز على المكونات القومية الفرعية على حساب الانتماء التركستاني الإسلامي الأكبر، وتم الأمر بشكل تعسفي أحياناً عبر إجبار السكان على الانضمام للهوية التي اختارها وصنعها السوفييت، وخلق أدب وثقافة منفصلة لكل جمهورية، مع ربطها مع الثقافة الروسية (الأخ الروسي الأكبر) وكانت إحدى الوسائل تبني الأحرف الروسية بدلاً من العربية، وجعل موسكو وجهة هذه المناطق الثقافية، وليس إيران وتركيا والعالم العربي.
رغم انهيار الاتحاد السوفييتي، ما زالت جمهوريات آسيا الوسطى تعيش في عزلة نسبية، جزء منها قسري بحكم الجغرافيا، وأغلبها اختياري، بسبب طبيعة الأنظمة.
فرؤساء دول المنطقة هم امتداد لقادة الأحزاب الشيوعية المحلية التي كانت تابعة لموسكو، والذين حرصوا على استمرار الأنظمة الأمنية المستبدة، التي تعاني في أغلبها من البيروقراطية والفشل الاقتصادي، الذي يفاقمه أن هذه المنطقة كانت الأكثر تأخراً بين الجمهوريات السوفييتية.
وتخشى هذه الأنظمة من أي ديمقراطية، وكذلك من صعود الشعور القومي الإسلامي، كما يحدث في تركيا (القومية وإلإسلام والديمقراطية)، أو كما حدث بالعالم العربي (القومية العربية التي تطالب بالوحدة أو الإسلام السياسي).
كما أن سنوات طويلة من القمع السوفييتي للدين والهوية القومية خلقت اغتراباً في هذه المجتمعات، وابتعاداً عن جذورها.
وبينما تعاملت روسيا بشكل الكبيرة مع منطقة آسيا الوسطى على أنها حديقتها الخلفية، وساعدها على ذلك طبيعة حكام المنطقة الاستبداديين الذين يخشون من التأثيرات القادمة من الدول الإسلامية (خوفاً من إحياء الإرث الإسلامي بالمنطقة) أو التأثير الغربي خوفاً من انتقال التوجهات الديمقراطية).
ولكن الصين استطاعت نفوذها الاقتصادي، خاصة في المنطقة، وكذلك تركيا، ولكن ظل لروسيا اليد العليا خاصة من الجانب السياسي، وكذلك دورها موسكو كوسيط في تجارة بين المنطقة وأوروبا وخاصة النفط والغاز، ولكن اليوم مع تعرض روسيا لحصار غربي خانق، تظهر مؤشرات على أن دول المنطقة تسعى لتجاوز دور روسيا كحلقة اتصال مع أوروبا، دون استفزازها، كما أن الصين يبدو أنه تريد تنشيط دور هذه المنطقة في النقل والتجارة، باعتبار أنه يمكن أن تكون ممراً بديلاً للنقل عبر روسيا المحاصرة غربياً.
قمة سمرقند سوف تناقش إحياء طريق الحرير القديم المار عبر المنطقة
وقمة منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) التي ستُعقد الشهر المقبل في المدينة الأوزبكية سمرقند، مركز طريق الحرير التجاري القديم، ستضع حجر الأساس لطرق بديلة.
ومن المؤكد أن منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم الصين وروسيا والهند وباكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان، ستُهيئ المشهد للتوسع في الشرق الأوسط، وكذلك للاتفاق على تشييد خط سكة حديد حيوي في آسيا الوسطى.
ويُتوقع أن تضع القمة اللمسات الأخيرة على قبول عضوية إيران في المنظمة في وقت تفيد فيه الجمهورية الإسلامية من التحولات الجيوسياسية للنقل في أوراسيا.
وسترحب القمة كذلك بالسعودية وقطر ومصر والبحرين والمالديف بصفتها شركاء حوار وأذربيجان وأرمينيا بصفة مراقبين. وأعربت الإمارات مؤخراً أيضاً عن اهتمامها بالاشتراك مع المجموعة.
هكذا سيتجاوزون روسيا.. طريق سيربط بين تركيا والصين عبر المنطقة
ويقول المسؤولون القرغيز إن قادة قيرغيزستان والصين اتفقوا على توقيع اتفاق في القمة لبناء خط سكة حديد بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان بطول 523 كيلومتراً، ظل على لوحة الرسم لمدة 25 عاماً. وهذا الخط سيربط الدول الثلاث بتركيا وإيران وأوروبا الوسطى والشرقية.
وقد نتج عن غياب الإرادة السياسية جنباً إلى العقبات اللوجستية والتقنية، خاصة في جبال قرغيزستان، والتكلفة الباهظة، تأجيل المشروع، الذي يبدو أقل تعقيداً الآن بسبب تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويتوقع الرئيس الأوزبكي، شوكت ميرضيايف، أن هذا الخط "سيوفر فرصاً جديدة لطرق نقل تربط منطقتنا بالأسواق في منطقة المحيط الهادئ. وهذه الخطوة ستوسع خطوط السكك الحديدية الحالية التي تربط الشرق بالغرب".
وتؤكد أوزبكستان منذ فترة طويلة أن هذا الخط سيوفر أقصر طريق من الصين إلى الأسواق في الشرق الأوسط وأوروبا، فيما ترى الصين أنه وسيلة لتفادي خطر انتهاك العقوبات الأمريكية والأوروبية الذي قد يطالها لو استمر النقل عبر روسيا.
وهذا الخط الجديد سيمتد من الخط الذي يربط أوزبكستان بميناء تركمانباشي في جمهورية ترکمنستان الدولي على بحر قزوين.
ومن هناك، سيصل إلى القوقاز وتركيا والبحر الأسود عبر ميناء باكو الأذربيجاني أو إيران والهند والخليج وشرق إفريقيا عبر ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) الذي يفيد من الميناءين الإيرانيين أنزالي وتشابهار.
ووافق ميناء باكو في يوليو/تموز على السماح لشركة ألبيرق التركية، بإدارة الميناء، وتطوير قدرته على التعامل مع البضائع، وبناء محطة للأسمدة.
كازاخستان تريد مسار نفطها المصدر لأوروبا بعيداً عن موسكو
ويوفر ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، وهو مزيج من خطوط السكك الحديدية والطرق السريعة والطرق البحرية بطول 7200 كيلومتر، أيضاً ممراً إلى الشمال من كازاخستان وروسيا.
ويدرس الرئيس الكازاخستاني، قاسم جومارت توكاييف، تحويل مسار صادرات النفط إلى أوروبا من روسيا إلى إيران وتركيا.
ولم تتردد كازاخستان أيضاً في محاولة استغلال العقوبات المفروضة على روسيا لصالحها، بتقديم بديل للشركات الغربية التي ترحل من روسيا.
الإمارات وقطر تشيدان خطوطاً ملاحية تربطهما مع إيران
ومطلع هذا العام، أعلنت إيران وقطر عن خطوط شحن منتظمة بين البلدين في إطار ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب. وبالمثل، أعلنت منظمة الموانئ والملاحة الإيرانية (PMO) إطلاق خطوط ملاحية بين تشابهار وميناء جبل علي في دبي.
ويتوقع محللون صينيون أن خط السكة الحديد، الذي سيبدأ في كاشغر، سيُحدث نقلة كبيرة في اقتصاد شينجيانغ، الإقليم المضطرب الذي يتعرض سكانه المسلمون لقمع وحشي من قبل بكين.
وهذه التحركات الرامية إلى تعزيز مكانة آسيا الوسطى في ربط ممرات النقل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب تأتي وسط تزايد السخط الشعبي والنشاط الجهادي في المنطقة.