المهاتما غاندي واحد من أشهر المناضلين في العالم، وتمثل سياسته القائمة على النضال السلمي ضد الاستعمار أيقونة خاصة، لكن الهند تحت قيادة ناريندرا مودي لها رأي آخر، فما الذي تكشف عنه احتفالات 75 عاماً من الاستقلال؟
صحيفة The Washington Post الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "مع احتفال الهند بعيد الاستقلال الـ75، ثمة تقليل من قيمة إرث غاندي، والاستهزاء به"، ألقى الضوء على التحول الخطير من الديمقراطية القائمة على التعدد إلى الشعبوية الهندوسية التي تمثل خطراً داهماً على الأقلية المسلمة في الهند، والتي يبلغ تعدادها أكثر من 200 مليون شخص من سكان البلاد البالغ 1.4 مليار نسمة. وتحتفل الهند الإثنين، 15 أغسطس/آب بمرور 75 عاماً على استقلال البلاد عن بريطانيا.
أفلام تمجِّد "المقاتلين"
عندما بدأ كاتب السيناريو الهندي، فيجايندرا براساد، كتابة فيلم حركة (أكشن) قبل 5 سنوات، أراد أن يروي قصة خيالية، لكنها تشيد بـ"المحاربين الحقيقيين" في رحلة نضال الهند من أجل الحرية.
كانت النتيجة فيلم "RRR"، وهو عرض مبهر مدته 3 ساعات أُنتج هذا العام وحطم على الفور الأرقام القياسية في شباك تذاكر دور العرض الهندية. يبدأ البطل في ذروة الفيلم تسليح القرويين الهنود بالبنادق لمحاربة المستعمرين البريطانيين قبل انطلاق مشهد تأبين فخم لقائمة تضم أسماء ثوار حقيقيين من التاريخ الهندي.
يغيب عن تلك القائمة اسم المهاتما غاندي، أيقونة المقاومة السلمية، أو إستراتيجية اللاعنف، والذي نال إشادة كثيرين في جميع أنحاء العالم، لكن براساد لم يكن من ضمنهم.
قال براساد مؤخراً: "حان الوقت لإخبار الهنود بالحقيقة وأن يعرفوا هوية المحاربين الحقيقيين الذين ينبغي تكريمهم"، مضيفاً أنَّ "حصول الهند على الاستقلال لم يكن بسبب غاندي. هذه هي الحقيقة".
بينما تحتفل الهند يوم الإثنين، 15 أغسطس/آب بمرور 75 عاماً على استقلالها عن الحكم البريطاني، فإنَّ إرث "والد الأمة" الذي دعا إلى المقاومة اللاعنفية والعلمانية يتعرَّض للتشكيك والتقليل من قيمته والاستهزاء به على نحو لم يحدث من قبل.
بدلاً من ذلك، يلتف الهنود حول مجموعة أخرى من أبطال القرن الـ20، لاسيما القادة الذين فضَّلوا الكفاح المسلح أو دافعوا علناً عن الهندوس، الأمر الذي يعكس المزاج الحالي للأمة الهندية والتحوّل في سياساتها وثقافتها.
تتعرَّض سمعة غاندي حالياً للتشويه بانتظام في مسيرات المتشددين القوميين الهندوس، معتبرين أنَّه كان رخواً في تكتيكاته ضد البريطانيين، ومتصالحاً بصورة مفرطة مع مسلمي الهند، الذين انفصلوا وشكَّلوا دولتهم الخاصة بهم، باكستان في 14 أغسطس/آب 1947. كما تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي وفي منتديات الإنترنت الكثير من الأكاذيب والمغالطات حول خيانة غاندي المزعومة للهندوس.
كان هناك تهميش متعمَّد لغاندي وجواهر لال نهرو، أحد زعماء حركة الاستقلال وأول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، في الأفلام والمنافذ الإعلامية التابعة للتيار السياسي الرئيسي في حين تعاظمت الإشادة بالقوميين المناصرين للنضال المُسلّح.
تعيد الهند التفكير بشكل أساسي فيما إذا كان غاندي قادراً على نيل حرية البلاد من الاستعمار بدون شبح إراقة الدماء، وما إذا كان ينبغي أن تكون مُثُله العليا هي المبادئ الأساسية الثابتة للبلاد.
قال توشار غاندي، حفيد الزعيم الهندي الراحل، المهاتما غاندي: "تحاول الحكومة الحالية ترويج نفسها على أنَّها حكومة متحدية وقوية. ثمة حملة متواصلة لاقتلاع مكانة غاندي من نفسية الشعب الهندي أو على الأقل التقليل من قيمته لدرجة تجعله شخصاً عادياً عديم الأهمية".
يتجسَّد هذا التحول الثقافي في ناريندرا مودي، رئيس الوزراء الشعبوي الذي صوَّره حلفاؤه باعتباره نقيضاً حيّاً لغاندي ونهرو -فهو حاد مع المسلمين وغارق في القومية الهندوسية.
كانت صحيفة هآرتس الإسرائيلية قد نشرت مقالاً عنوانه "الهند بزعامة مودي على خطى النازية"، شبّه فيه الكاتب ما يتعرض له المسلمون في آسام على أيدي الهندوس، ما قامت به حكومة ألمانيا النازية تجاه اليهود في أوروبا.
ومنذ عام 2018، أعلن مودي عن تمثالين جديدين لاثنين من المقاتلين من أجل الحرية، التمثال الأول لسوبهاش تشاندرا بوز، القومي الهندي الذي انفصل عن غاندي وشكَّل جيشاً لمواجهة البريطانيين وطلب المساعدة من ألمانيا النازية وإمبراطورية اليابان الإمبراطورية؛ والثاني لساردار فالاباي باتل، وزير الداخلية السابق الذي وحَّد أراضي الهند باستخدام القوة العسكرية وشكَّك في ولاء المسلمين الهنود. بينما يحظى كلا الرجلين بمكانة كبيرة لدى الهنود عبر مختلف الطيف السياسي، كان هناك احتضان خاص لهما من التيار اليميني.
ظهرت تماثيل بوز وباتل في مقطع فيديو أصدرته وزارة الثقافة الهندية هذا الشهر احتفالاً بذكرى الاستقلال في حين لم تظهر أي صورة أو إشارة لغاندي ونهرو، تماماً كما حدث في فيلم "RRR".
قال فيجايندرا براساد، كاتب السيناريو الذي رشحه مودي لمجلس الشيوخ في يونيو/حزيران لمساهماته في المجال الثقافي الهندي: "لا يمكنك الدعوة إلى اللاعنف عند مواجهة المتوحشين والقتلة". وأضاف: "لم يكن غاندي رجلاً سيئاً، لكن الشيء السيئ هو حجم الإشادة والتبجيل الذي حظى به على مدى عقود. يُشكَّك جيل الشباب اليوم في كل ذلك، لأن العديد من الحقائق التاريخية بدأت تظهر بوضوح".
متى بدأت الموجة التعديلية؟
منذ وفاته، اختلف المؤرخون والكتّاب الهنود حول إنجازات غاندي وإخفاقاته. يجادل كثيرون بأنَّ غاندي نال تقديراً مفرطاً في العقود التي تلت عام 1947، عندما سيطر حزبه "المؤتمر الوطني الهندي" على المجال السياسي وشكَّل اتجاه صناعة الأساطير في البلاد. انتقد باحثون هنود، في الآونة الأخيرة، آراء غاندي بشأن العرق والجنس، في تقليل واضح من قيمة إرثه.
تسارعت وتيرة تلك الموجة التعديلية خلال العقود الأخيرة، لاسيما مع صعود حزب بهاراتيا جاناتا –الحزب الحاكم الحالي لجمهورية الهند- وتراجع هيمنة حزب المؤتمر الوطني الهندي. تعود جذور حزب بهاراتيا جاناتا إلى الحركة القومية الهندوسية التي عارضت أيديولوجية غاندي العلمانية خلال فترة حياته وفضَّلت رؤية الهند باعتبارها أمة هندوسية. كان ناتهورام جودسي، الرجل الذي اغتال غاندي بثلاث رصاصات في صدره عام 1948، عضواً في منظمة التطوع الوطنية (راشتريا سوايامسيفاك سانغ)، وهي منظمة قومية هندوسية مؤثرة كان مودي على صلة بها خلال فترة شبابه.
قال سريناث راغافان، المؤرخ في جامعة "أشوكا" الهندية، إنَّ "النقد الموجه إلى غاندي ليس جديداً، لكن اللافت للنظر أنَّه ينتشر مُجدَّداً ويضرب بجذوره في البلاد في وقت تحاول فيه الأيديولوجية القومية الجديدة لحزب بهاراتيا جاناتا تأكيد هيمنتها"، وأضاف: "في ضوء حقيقة أنَّ ثمة منظمات -مثل منظمة التطوع الوطنية- ظلت بعيدة عن حركة الاستقلال التي قادها غاندي، فإنَّ بحثها عن الشرعية التاريخية تطلَّب البحث عن رموز قومية بديلة".
ومع ذلك، كان ناريندرا مودي يبدي باستمرار الاحترام والتقدير لغاندي في الاحتفالات والخطب العامة. وبَّخ مودي زملاءه أعضاء البرلمان عن حزب بهاراتيا جاناتا، عندما أشادوا بقاتل غاندي ووصفوه بأنَّه وطني. في عام 2011، حظر مودي، الذي كان حينها رئيساً لحكومة ولاية غوجارات، نشر سيرة ذاتية كتبها صحفي أمريكي أشارت إلى أنَّ غاندي كان مثلي الجنس، ولديه وجهات نظر عنصرية. قال مودي إنَّ هذا الكتاب لا يشوِّه "رمزاً أيقونياً للأمة الهندية فحسب، بل للعالم أجمع".
لكنه التزم الصمت أيضاً في العام الماضي عندما نظَّم تيار اليمين الهندوسي المتطرف سلسلة من التجمعات الدينية دعا فيها المتحدثون إلى العنف ضد المسلمين وأصبحت كراهية غاندي نغمة متواصلة. في تجمع حاشد في ديسمبر/كانون الأول، وجَّه رجل دين هندوسي التحية لقاتل غاندي، ناتهورام جودسي، وجادل بأنَّ الهند كانت ستصبح أقوى من أمريكا اليوم لو كان باتل، وليس نهرو، أول رئيس وزراء للبلاد.
ومنذ وصول مودي إلى السلطة عام 2014، شنت جماعات هندوسية يمينية هجمات على أقليات بدعوى أنها تحاول منع التحول الديني، وأقرت عدة ولايات هندية، وتعمل أخرى على دراسة، قوانين مناهضة لحق حرية الاعتقاد الذي يحميه الدستور.
وفي 2019، وافقت الحكومة على قانون يخص الجنسية قال معارضون له إنه تقويض لدستور الهند العلماني بإقصاء المسلمين المهاجرين من دول مجاورة. والقانون من شأنه منح الجنسية الهندية للبوذيين والمسيحيين والهندوس والجاينيين والبارسيين والسيخ الذين فروا من أفغانستان وبنغلاديش وباكستان قبل 2015.
في السياق ذاته، تعتقد الناشطة الهندوسية، بوجا شكون باندي، أنَّ مودي يشارك اليمين المتطرف ازدراءه لغاندي، قائلة "أؤمن أنَّ مودي يضمر في داخله نفس مشاعر الازدراء لغاندي، لكنّه مُقيّد بقواعد منصبه العلماني".
تصدرت بوجا شكون باندي عناوين الصحف في ذكرى وفاة غاندي عام 2019 عندما التقطت بندقية هوائية وأطلقت ثلاث طلقات على دمية لغاندي، قائلة إنَّ ما تحتاجه الهند هو القوة الوطنية ومزيد من التسلح وتدريب شباب الهند لمحاربة ما وصفته بتهديد الجهاد الإسلامي. وأضافت: "يجب أن تصبح قوياً روحانياً وعسكرياً".
تحول ثقافي في الهند
في عام 1998، حظرت الحكومة الهندية برئاسة أتال بيهاري فاجبايي، رئيس الوزراء الهندي الأسبق وأحد الزعماء البارزين في حزب بهاراتيا جاناتا، عرض مسرحي في مومباي أظهر قاتل غاندي باعتباره بطلاً رئيسياً في الرواية.
لكن منذ العقد الأول من القرن الـ21، ظهرت المزيد من الأفلام تستكشف حياة القوميين المتشددين الأقل شهرة وخصوم غاندي. في عام 2004، أخرج شيام بينغال، المخرج الهندي الشهير، سيرة ذاتية تشرح حياة القومي المتشدد، سوبهاش تشاندرا بوز، تحت عنوان فرعي "البطل المنسي".
قال سرينيفاس إسفي، أستاذ بجامعة "عظيم بريمجي" يدرس السينما الهندية: "يُنتَج حالياً مزيد من الأفلام الجماهيرية التي تتوقع مسبقاً تحول البلاد إلى الاتجاه اليميني المتطرف. نرى تفضيلاً لنوعية القومية المدعومة بقوة السلاح".
يخطط ماهيش مانجريكار، منتج أفلام وممثل هندي شارك في الفيلم البريطاني "Slumdog Millionaire" عام 2008، لفيلم سينمائي هذا العام عن فيناياك دامودار سافاركار، أحد مؤسسي الفكر الهندوسي القومي والذي اتهم بالتآمر في مقتل غاندي. ويشير فيجايندرا براساد، كاتب سيناريو فيلم "RRR"، إلى أنَّه مرَّ شخصياً بتحول ثقافي خلال السنوات الأخيرة.
قال براساد إنَّ أصدقاءه أرسلوا له قبل 5 سنوات منشورات على شبكة الإنترنت تتحدث عن غاندي وتاريخ الاستقلال. ساهمت تلك المنشورات في قلب معتقداته رأساً على عقب، حيث بدأ البحث على الإنترنت وخلص إلى أنَّ غاندي كان غير ديمقراطي.
تحول براساد في هذه الأيام إلى النظام الغذائي النباتي واعتناق تعاليم الإله الهندوسي، كريشنا، (البهاغافاد غيتا). لكنه دعا الهندوس أيضاً إلى احترام التعددية الدينية وأدان القومية الهندوسية التي تُمجّد قاتل غاندي، قائلاً "لا يوجد شخص مثالي. لكن لا أحد يستحق القتل".
ومع ذلك، لم يكن فيلمه الجديد "RRR" مُحمّلاً برسائل سياسية فحسب، بل انطوى على رسائل دينية أيضاً. استندت قصة الفيلم بشكل فضفاض إلى قصة ألوري سيتاراما راجو، القائد الثوري الهندي الذي شنَّ حملة مسلحة وانخرط في حرب عصابات ضد الاستعمار البريطاني في الهند.
أشار براساد إلى إنَّه على الرغم من أنَّ قصة فيلم "RRR" خيالية، كانت رسالته الضمنية الموجهة للهنود حقيقية. قال للصحيفة الأمريكية: "لقد صنعنا تاريخاً بديلاً. لكن الموضوعات الجوهرية المتأصلة -الوطنية والكرامة والالتزام بالدفاع عن الوطن- كانت كلها موجودة".