"كانت الخرافة ضرورة كالعقيدة، بل مُلحة لتغطية ما لا يمكن الإفصاح عنه أو ما يضر الإفصاح عنه، لازمة لستر الكثير من الحقائق الموجعة، فالحقيقة تفسد أشياء كثيرة لأناس يزعجهم وضوحها ويسوؤهم معرفتها"
رواية زرايب العبيد للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان
كنت في الثانية عشرة من عمري حيث ذهبت إليه مع أمي؛ استيقظت مبكراً ولم أكن أعلم وجهتنا، مشينا بطول القرية ثم استقللنا عربة قديمة، سألت أمي عن المكان الذي سنقصده ولكنها لم ترد عليّ، وما هي إلا دقائق حتى صعدنا على ظهر المركب لنذهب إلى البر الثاني. حين أفتش في ذاكرتي حالياً أرى أنني كنت سعيدة برؤية النهر والطيور، ولكن تلك السعادة تبدّلت فجأة إلى خوف شديد ورهاب بمجرد أن وصلنا إلى ساحة الشيخ، وهناك هالني ما رأيت:
ساحة الشيخ سعيد؛ حيث يُعالج الحزن والضيق بالقرآن والضرب
قبل أسابيع قليلة من زيارة الشيخ سعيد لاحظت جدتي أنني حزينة ومنطوية على الدوام؛ لا ألعب مع صديقاتي وأنام كثيراً، وقتذاك همست جدتي في أذن أمي بأن حالي لا يعجبها أبداً وأنني ربما أكون محسودة أو مسحورة، ولهذا لابد أن أزور الشيخ سعيد في أقرب وقت. أسكتت أمي جدتي بنظرة واحدة وخرجتا لتُكملا حديثهما في الصالة، ونسيت أنا الأمر برمّته حتى جاء موعد الزيارة.
حين ذهبت إلى هناك أصبت بالهلع؛ لأن الشيخ سعيد كان يضرب إحدى البنات، وحين سألت أمي ردت عليَّ سيدة موجودة هناك بأن هذه البنت يسكنها جني عاشق ولابد أن تُضرب حتى يخرج من جسدها، انكشمت داخل عباءة أمي ولم أرد، حين دخلنا إلى الشيخ وحكت له أمي الحكاية قال لها إن الأمر بسيط، وأعطاها ماء مقروءاً عليه سورة البقرة، وأخبرها بأن أشرب هذا الماء ثلاث مرات يومياً وإذا لم أتحسّن علينا أن نعود مرة أخرى. أذكر يومها أنني عدت إلى البيت ولم أتوقف عن اللعب أبداً.
فرحت جدتي وظنت أن الشيخ هو من عالجني، ولكن الحقيقة هي أن الخوف هو من فعل..
داخل البقع البعيدة من الصعيد: الأمر لا يقتصر على ساحة الشيخ سعيد
كوني نشأت وترعرت داخل إحدى قرى محافظة أسوان القريبة من الأقصر فقد كنت أرى نساء قريتنا والقرى المجاورة وهن يشددن الرحال صوب مدينة الأقصر للدوران حول المسلّات الفرعونية سبع مرات، وذلك أملًا في تحقيق حلم الإنجاب، والحقيقة أن هذا الحلم تحديداً له عدة طرق لتحقيقه. وفقًا للموروث الشعبي؛ هناك على سبيل المثال شرط "الخضة"، فقد سمعت من جدتي والكثير من النساء أن رحم المرأة تدب فيه الروح حين تشعر المرأة بالخضة، وكلما كانت "الخضة" أشد استيقظ الرحم بشكل أسرع من سباته العميق، ولهذا فقد تفنّّنت النسوة عبر العصور في وضع ضوابط وشروط "الخضة"؛ في بعض القرى تنام المرأة على قضبان القطار حتى يقترب منها ثم تندفع بعيداً، وفي قرى أخرى على المرأة أن تقضي ليلة كاملة في المقابر، بينما في بعض القرى لا تمكث المرأة داخل أحد القبور سوى عشر دقائق ثم تخرج.
حلم الإنجاب والمزيد من الممارسات الغريبة
تكنيك "الخضة" ليس الوحيد الذي يُمارس مع النساء من أجل الإنجاب، فهناك العديد من الممارسات الأخرى؛ ففي أسوان وقنا وبعض مراكز سوهاج؛ مثل مركز البلينة هناك عادة "الكحريتة"؛ حيث تذهب المرأة التي ترغب في الإنجاب إلى أحد المنحدرات الجبلية وتلقي بنفسها كي "تتكحرت" لنهاية المنحدر، ويفضل أن ترتدي المرأة أثناء هذه العملية ملابس ثقيلة أو تُلف داخل لحاف حتى لا تتأذى بشدة، ومن وجهة نظر سيدات القرية فإن هذه الطريقة أيضاً لها تأثير طبي على الرحم؛ حيث يعود بعد "الكحرتة" لأداء وظيفته على أكمل وجه.
جدير بالذكر أن كل هذه الممارسات منتشرة بين معظم قرى الصعيد؛ فحين تذهب على سبيل المثال إلى أحد معابد الأقصر ترى النساء قادمات من أسوان وسوهاج وقنا للتبرك من المسلات، وحين تفشل الأماكن القريبة في حل المشكلة يذهبن إلى أماكن أبعد؛ مثل تمثال المسخوطة في أسيوط، فهناك على أعلى جبل عزبة يوسف في قرية العتمانية بمركز البداري في أسيوط يقبع تمثال المسخوطة التي تستطيع قضاء حوائج الناس، فالأمر لا يقتصر فقط على حلم الإنجاب، وإنما يمكن لمن تأخر زواجها أيضاً أن تذهب إلى هناك.
والمسخوطة هو تمثال حجري لامرأة جالسة لا تملك أي ملامح عدا بطنها البارز، ربما لهذا السبب تحديداً ظن الناس أن لها علاقة بموضوع الإنجاب، ورغم أن الطريق إلى تمثال المسخوطة ليس ممهداً وشاق ويحتاج إلى الكثير من الجهد إلا أن له الكثير من الزائرين الذين يأتون إليه من كل البقاع البعيدة.
التبرك بمياه المجاري في البحيرة والبئر المسحورة في الأقصر
في مدينة إدكو بمحافظة البحيرة رأيت بعض الناس يستخدمون مياه الصرف الصحي التابعة لآبار أحد المساجد وذلك بزعم أنها تشفي من الأمراض الجلدية، وقد ذكرتني تلك الواقعة الكارثية على المستوى الصحي بطقس مشابه في الصعيد؛ ففي مدينة أرمنت بمحافظة الأقصر تقوم النساء بتحميم أطفالهن في بئر تُسمى البئر المسحورة، وهناك تعتقد النساء أن مياه هذه البئر تمنح أطفالهن الشجاعة والقوة، وهناك بعض القصص التاريخية التي تحوم حول هذا المكان؛ حيث يُقال إن هذه البئر هي تحديداً التي أُلقي فيه سيدنا يوسف من قبل إخوته قبل أن يتم إخراجه ويذهب إلى قصر العزيز.
لماذا يحدث كل هذا؟
تدفقت كل تلك الذكريات والأحداث في رأسي فور أن رأيت فيديو يتبرك فيه الناس بمياه الصرف الصحي. في البداية قلت لنفسي إن فيديو البحيرة كارثي للغاية على المستوى الصحي وعبثي، فكيف ستشفى من مرض جلدي باستخدام مياه الصرف الصحي!! هذا ضرر بالغ ومضاعف، ولكن حين فكرت في أمر الصعيد وجدت أن الأمر قد يكون مشابهاً. الضرر أيضاً بالغ ومضاعف. ماذا لو ماتت إحدى النساء وهي تتكحرت من فوق الجبل، ماذا لو لم تلحق المرأة نفسها وتتحرك قبل أن يأتي القطار، لماذا نفعل بأنفسنا كل هذا؟
لما فكرت في الأمر وجدت أننا وحين تستعصي علينا مشكلة ما نلجأ لتلك الطرق والممارسات الغريبة كما نلجأ كذلك إلى التبرك، لماذا؟ لأننا نريد أن نؤمن بأن هناك قوة ما ورائية تحرسنا من تحديات وصعاب الحياة ومشاكلها، فهذه الفكرة وحدها تجعلنا نشعر بالأمان؛ نشعر كذلك بأننا لسنا وحيدين في هذه الحياة ولا نقف أمامها بمفردنا.
وفي بعض الأحيان نريد أن نهرب من المسؤولية؛ حين أكون أماً ويكون طفلي حزيناً لا أريد أن أتحمل مسؤولية هذا الحزن، تكفيني باقي مسؤوليات الحياة الأخرى، أنا لست السبب، هناك سبب آخر ما ورائي أيضاً قد يكون طفلي محسوداً أو ممسوساً، بالطبع يسهل الجهل هذا الأمر كثيراً ويجعله مقبولاً. هناك كذلك إشكالية النمط، أو كما تحدث عنها عالم الاجتماع الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، فحين ترى أغلب المحيطين بك يحلون مشاكلهم بطريقة ما ستتخذ نفس المسار لأنك لا تريد أن تشعر بأنك قصَّرت أو لم تحاول بشكل كافٍ؛ لذلك ستذهب وراء الجماهير حتى لو كنت نلت قسطاً كافياً من التعليم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.