"بالطبع الصينيون سيلقون القبض عليّ"، كانت هذه إجابة رئيسة تايوان تساي إنغ وين، عندما سُئلت ماذا ينوي أن يفعل بها الصينيون.
فقبل ثلاث سنوات سأل زائرٌ أجنبي رئيسة تايوان عما إذا كانت قلقةً حيال التهديد العسكري الصيني، فابتسمت تساي إنغ وين ابتسامةً باهتة، وأجابت: "بالطبع، سيأتون عبر نهر تامسوي مباشرةً ليأخذوني"، في إشارة إلى خطط الصين لضم بلادها، بما في ذلك القبض على قادة البلاد أو قتلهم.
ولم يعد هذا السيناريو مستبعداً بعد لقاء تساي مع رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، الأربعاء الماضي، الثالث من أغسطس/آب؛ إذ ردت الصين بإطلاق الصواريخ فوق تايوان، وحشد الطائرات المقاتلة، ومحاكاة عملية الهجوم على الجزيرة.
واتهمت بكين تساي بالتآمر من أجل استقلال تايوان، بينما أدانها وزير الخارجية الصيني وانغ يي، باعتبارها "لا تستحق أن تكون سليلة" الشعب الصيني.
لكن تساي ليست شخصيةً قومية متهورة، بل هي محامية أنهكت نفسها حديثاً في المفاوضات من أجل ضم بلادها إلى منظمة التجارة العالمية، حسب وصف صحيفة Financial Times البريطانية.
رئيسة تايوان تنتمي لحزب يتحدى سياسة الصين الواحدة
تنتمي رئيسية تايوان للحزب التقدمي الديمقراطي، الذي يتحدى مبدأ الصين الواحدة، ويقول إن تايوان دولة مستقلة.
وسياسة الصين الواحدة هي مبدأ ينص على أن كل أجزاء الصين، وهي الصين البر الرئيسي، وتايوان، وهونغ كونغ، التي كانت مستعمرة بريطانية، وماكاو التي كانت مستعمرة برتغالية، هي كلُّها تشكل أجزاءً من الصين الواحدة، وبالفعل عادت هونغ كونغ وماكاو إلى السيادة الصينية رغم احتفاظهما بمقدار كبير من الاستقلال المحلي، خاصة في القوانين والاقتصاد.
والمفارقة هنا أن تايوان والصين نفسهما كانا يتفقان منذ انشقاق الجزيرة على سياسة الصين الواحدة، ولكن يختلفان على من يمثلها، إلا أن تايوان بدأت في التخلي عن هذا المبدأ.
إذ تبادلت تايوان والصين الادعاء بأن كلاً منهما الممثل الشرعي الوحيد للصين وأراضيها، بما فيها تايوان، ولكن في الوقت الحالي يعترف أغلب دول العالم، بما فيها كل الدول الغربية تقريباً، وعلى رأسها الولايات المتحدة بحكومة بكين كممثل رسمي للصين، ولا ترتبط الدول الغربية، بما فيها واشنطن، بعلاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان، رغم الدعم القوي العسكري والسياسي الذي تقدمه للجزيرة.
فعندما نشأت تايوان ككيان يحكم بشكل منفصل عن بقية الصين، إثر فرار حكومة حزب الكومينتانغ بعد انهيار سلطتها في البر الرئيسي للصين عام 1949، أمام قوات الحزب الشيوعي، لم يقرر حزب الكومينتانغ، الذي كان قبل ذلك الحزب الحاكم الرئيسي في الصين، إنشاء دولة مستقلة، بل أعلن أنه يمثل الصين الرسمية، وأطلق على البلاد اسم جمهورية الصين، واعتبر أن حكومة تايوان هي الممثل الرسمي للصين، واعترف الغرب بهذا الوضع الشاذ لفترة.
وحتى التعديلات الدستورية لعام 1991، وإرساء الديمقراطية في تايوان، اعتبرت حكومة تايوان التي يهيمن عليها حزب الكومينتانغ أنها تمثل الحكومة الشرعية الوحيدة للصين وأراضيها المحددة، وأيضاً تم تصنيف الحزب الشيوعي الصيني على أنه "جماعة متمردة".
في عام 1992، أكد حزب الكومنتانغ، الذي أسس تايوان، على أن كلاً من جمهورية الصين الشعبية وجمهورية الصين قد اتفقتا على وجود "الصين" واحدة، لكنهما اختلفتا حول ما إذا كانت "الصين الواحدة هذه" تمثلها جمهورية الصين الشعبية، أم جمهورية الصين (تايوان).
حدثت تغييرات داخل تايوان بشأن سياسة الصين الواحدة، وظهرت قوى سياسية تعتبر البلاد دولة مستقلة، ولكن القضية مازالت مسألة خلافية داخل تايوان حتى لو تراجع زخم مبدأ الصين الواحدة.
وتعترف الولايات المتحدة بسياسة الصين الواحدة، حيث تقيم علاقات رسمية مع الصين الشعبية، ولكن تقول التفسيرات الأكثر تفصيلية لموقف واشنطن من سياسة الصين الواحدة، إنه رغم اعتراف السياسة الأمريكية بسياسة الصين الواحدة، كما ظهر في بيان شنغهاي بين الصين وأمريكا عام 1972، فإن واشنطن لا تعترف بسيادة جمهورية الصين الشعبية التي يحكمها الحزب الشيوعي على تايوان، ولا بتايوان كدولة ذات سيادة، واعتبرت السياسة الأمريكية أن وضع تايوان غير مستقر.
ولكنها تفعل ذلك بهدوء
بعد قضائها ست سنوات في السلطة، وزعامة الحزب الديمقراطي التقدمي المؤيد للاستقلال، يمكن القول إن تساي لم تتغير كثيراً منذ الأيام التي قضتها في العمل البيروقراطي التجاري. إذ قال أحد مساعديها السابقين: "إنها سياسيةٌ مجتهدة، وتدرس الأشياء بنفسها وبالتفصيل الممل دائماً".
وأوضح مسؤولون بارزون تعاونوا مع تساي، أول رؤساء تايوان العازبين، أنها تجنبت اتخاذ قرارات مندفعة عن طريق طلب مشورة مجموعة من البيروقراطيين والمثقفين فيما يتعلق بأي سياسة مهمة.
وقال مسؤولٌ عمل معها بشكل مقرب عندما كانت رئيسة للحزب بين 2008 و2012: "حين كنا نجهز مشاريع القوانين للهيئة التشريعية داخل مقر الحزب، كان أكثر شيء يهمها هو أن نتشاور مع عدد كافٍ من الأشخاص الذين لا يوافقوننا الرأي، ويعد التوازن هو المبدأ الأساسي بالنسبة لها".
وهيمن هذا النهج على سياسة تساي في التعامل مع الصين أيضاً، إذ حاولت مع بداية فترتها الأولى عام 2016 أن تسد الفجوة بين عزم الصين المتزايد على ضم الجزيرة إليها وبين ما تصفه المصادر الغربية بـ"رغبة الجمهور التايواني" في البقاء كديمقراطية مستقلة.
وأثنت في خطاب تنصيبها على المحادثات شبه الرسمية التي جرت عام 1992، والتي أسفرت عن بداية فترة من التبادل الاقتصادي عبر مضيق تايوان. وقالت الرئيسة الجديدة إن على "الجانبين تقدير والحفاظ على ثمار التفاعل والمفاوضات".
لكن بكين قطعت الاتصالات المعتادة مع تايبيه، عندما رفضت تساي قبول مطالبة الصين باعتبار تايوان جزءاً من أراضيها.
الحزب الشيوعي يراها الرأس المدبر للانفصال
ويرى الحزب الشيوعي الصيني أن تساي كانت مهندسة السياسات الانفصالية منذ عام 1999، عندما وصف رئيس تايوان آنذاك لي تينغ هوي العلاقات مع بكين بأنها "علاقات خاصة بين دولتين".
بينما تمتدحها المصادر الغربية، وتقدمها باعتبارها البطلة الهادئة لاستقلال تايوان، والسياسية اللطيفة الليبرالية المناقضة لصورة الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي يجري شيطنته في الغرب.
وترأست تساي مجموعةً استشارية "من أجل تقوية وضعية الدولة المستقلة الخاصة بجمهورية الصين"، وهو الاسم الرسمي لتايوان. لكن تشانغ جونغ فينغ، مساعد الأمن القومي آنذاك، قال إن تساي لم تكن المسؤولة عن هذه السياسة.
بينما تعمقت شكوك بكين بعد أن ترأست تساي الهيئة الوزارية المكلفة بوضع سياسة التعامل الصيني في عهد تشن شوي بيان، أول رئيس للحزب الديمقراطي التقدمي، الذي تسبب في التدهور السريع في العلاقات مع بكين بعد أن سلك المسار المؤيد للاستقلال عام 2003.
ومع ذلك، أصر الدبلوماسيون والمحللون السياسيون الأجانب على أن تساي كانت تمثل الخيار الأكثر أماناً بالنسبة لتايوان.
الجماهير تعتبرها متبلدة المشاعر ولكنها فازت بسبب القلق من التقارب مع الصين
وبعد الولاية الثانية الفوضوية لتشن، أخذت تساي خطوتها الكبيرة لتنتقل من عالم البيروقراطية إلى عالم السياسات الانتخابية وترأست الحزب الديمقراطي التقدمي. ولم تحصل على دورها الجديد بسهولة، لأنها كانت تبدو متبلدة المشاعر أثناء مخاطبة الجماهير.
لكنها فازت بانتخابات عام 2016 بفضل موجة الاستياء الشعبي من تنامي التكامل الاقتصادي مع الصين في عهد ما يينغ جيو، خليفة تشن من حزب الكومينتانغ الأميل لفكرة الصين الواحدة.
وأوضحت شيلي ريغر، خبيرة الشؤون التايوانية في كلية ديفيدسون بكارولينا الشمالية: "إنها الزعيمة التي كانت تايوان بحاجةٍ إليها. حيث يعتبر موقف تايوان صعباً لدرجة أن الساسة 'العاديين' يقصرون في علاجه". ووصفتها شيلي بأنها هادئة، وحكيمة، وعميقة التفكير، وحذرة.
تريد الانفصال عن بكين اقتصادياً
ومثّل هذا الحذر علامةً مميزة لقيادتها، إذ تولت تساي الدفة من ما، وخلصت إلى أن تايوان أصبحت تعتمد على الصين اقتصادياً أكثر من اللازم، لكنها لم تنتهج السياسات المعادية للصين نفسها التي انتهجها تشن.
وقال مسؤولو الإدارة التايوانية إن الرئيسة كانت تدرك نقاط ضعف تايوان بالكامل. وقال أحد الساسة في حزبها: "تركز تساي على الحفاظ على ما نملكه: ديمقراطيتنا، وسيادتنا، وأسلوب حياتنا. وقد قررت أن تحقق ذلك، إذ كنا بحاجةٍ إلى تحديد دور تايوان الجغرافي والجيوسياسي بوضوح. وترى أن أمننا سيتحسن فقط عندما نصبح دولةً لا غنى عنها من الناحية الاقتصادية كنقطةٍ أساسية في سلاسل التوريد العالمية، ومن الناحية السياسية كدولةٍ عضوة في مجتمع الديمقراطيات".
ولكن اللافت أنه بينما يراهن التايوانيون على أن ازدياد أهميتهم بالنسبة للغرب بسبب صناعة أشباه الموصلات التي يهمينون عليها سوف يحميهم، فإن الولايات المتحدة تسعى لتقليل اعتمادها على صناعة الرقائق التايوانية، وتحاول أن تنقل جزءاً من هذه الصناعة إلى أراضيها، تحسباً لوقوع غزو صيني للجزيرة.
كما أن تجربة الحرب الأوكرانية تشير إلى أن الولايات المتحدة التي شجعت كييف على الدخول في عداء مع موسكو لن تدخل في حرب مع دولة نووية من أجل الدفاع عن دولة ليست عضواً بالناتو، فهي رغم دعمها الكبير لكييف بالأسلحة والأموال، لكنها واضحة بأنها لن تنخرط في الحرب من أجلها، وهي حرب قد تنتهي باحتلال جزء كبير من الأراضي الأوكرانية.
الرهان على السيناريو الأوكراني
ويبدو أن الرئيسة التايوانية تسير على خطى الساسة الأوكرانيين في المضي قدماً في إثارة عداء الجار العملاق والرهان على الغرب البعيد.
وفي هذا الصدد ترى تساي أن مكاسب استضافة أول رئيسة لمجلس النواب الأمريكي في تايوان منذ 25 عاماً كانت أكبر من مخاطر الرد الصيني الانتقامي.
ولكن المشكلة التي تتجاهلها رئيسة تايوان أن الزمن يعمل لصالح العملاق الصيني، الذي قد يكون قادراً بعد أقل من بضعة عقود على تنفيذ حلمه بضم تايوان، ووقتها سيكون دعم الغرب أقل فاعلية من دعمه الحالي لأوكرانيا.
وبالفعل بدأ البعض يشكك في حكمها على الأمور مع زئير طائرات الصين المقاتلة فوق مضيق تايوان. بينما قال أحد الدبلوماسيين الغربيين عن تساي: "من الصعب اكتشاف الكيفية التي ستحسن بها أمن تايوان من هذه النقطة. إذ يعد هذا أكبر تحدٍّ واجهته حتى الآن".