هناك مثلٌ شعبيّ شهير جداً في الجزائر يقول إن "الحدايد للشدائد" وآخر يعتبر أن "الزينة خزینة"؛ المثلان يلخّصان علاقة المرأة الجزائرية بالحليّ والمجوهرات، ويختزلان ثقافة الادّخار لديها، تلك التي تكتسبها منذ نعومة أظافرها.
وإذا كانت المجوهرات في وقتنا الحالي تُستخدم للتزيين فقط، فقد كانت في السابق تؤدي وظيفةً رمزية يُشكِّل حروف إبداعها الصائغ، الذي يتفنّن في تحويلها إلى لغةٍ تشكيلية، يرمز كلُّ شكلٍ منها إلى معنى معيّن.
اشتهر "خيط الروح"، أو "الزروف" باللهجة الجزائرية، لدى سكان الغرب الجزائري قبل أن تُصبح شعبيته واسعة في كلّ البلاد. هو حُلي متجذر في عمق التقاليد الجزائرية، ينتقل من الأم إلى الابنة -بالميراث- ويُحتفظ به مدى الحياة، وهناك عائلات لا تزال تحتفظ بخيط روح من القرن 18.
هو مصنوع من الذهب أو الفضّة، وترتديه العاصميات مع الألبسة التقليدية الجزائرية، كالشدة التلمسانية أو الكاراكو مثلاً. بدأت قصته مع رجلٍ فقير، لكنه أصبح اليوم واحداً من أغلى المجوهرات في الجزائر.
تعالوا معنا في هذا التقرير لنتعرف معاً على جوهر "خيط الروح"؛ واحد من أغلى الحُليّ، التي تتزيّن بها كل عروس جزائرية.
"خيط الروح".. بدأ كهدية من رجلٍ فقير إلى زوجته
يعود أصل هذه الجوهرة الثمينة إلى مدينة الجزائر، إبان حُكمها من طرف العثمانيين؛ أمّا تسميتها بـ"خيط الروح" فاختلفت الروايات حولها. هناك من يقول إنه سُمّي كذلك لأن العقد يُشبه الخيط الرفيع، وكان يوضع على الرقبة قديماً، حين كان سكان العاصمة يطلقون على الرقبة اسم الروح، فجمع الاسم بين الكلمتين.
أمّا الأسطورة الأخرى، فتُنسب إلى عائلة عريقة من مدينة الجزائر زوّجت ابنتها إلى رجل طيب، ولكنه فقير. وفي يوم الزواج، أهدى الرجل الفقير عقداً من الذهب إلى زوجته، لكنه كان أصغر من أن تستطيع أي امرأة تزيين رقبتها به.
ووفقاً لصحيفة "الشروق" الجزائرية، تقول الأسطورة إن أم العروس لم تتمالك نفسها، فصرخت: "بوه عليا هذا جابلها خيط الروح"، في إشارة إلى صغر حجم العقد. فما كان من والد العروس إلا أن وضع العقد على رأس ابنته، ليتبيّن أن مكانه لافت، ومن هنا بدأت العادة؛ فأصبح "خيط الروح" يزين رؤوس الجزائريات.
وبحسب ورقةٍ بحثية بعنوان "حُلي الرأس للمرأة بمدينة الجزائر في العهد العثماني" للدكتورة عائشة حنفي، وهي أستاذة في معهد الآثار بجامعة الجزائر، يعود أصل هذه الحلية إلى الفينيقيين، ولم تكن حصراً للجزائريات.
فقد عُرف في المغرب العربي والشرق الأوسط تحت أسماء مختلفة، ولبسته المرأة في المدينة والأرياف على السواء. وفي حين يُسمّى "الزروف" في الجزائر؛ كان یُعرف بـ"الحلیلو" أو "الشركة ذات النوایة" في الأطلس الصحراوي مثلاً، و"شعيرية" في صفاقس التونسية، إضافةً إلى "الكردال" في مصر.
"الزروف" مع أفخم الملابس التقليدية الجزائرية
وفي تفصيل شكل هذا الحليّ الثمين الذي يزيّن جبين وعنق المرأة الجزائرية؛ فخيط الروح عبارة عن عقدٍ مكوّن من أحجارٍ دائرية صغيرة عدة، تتدلى من إحداها وريدات على شكل "قطرات"، وغالباً ما تكون القلادات ذهبية مرصّعة بالألماس أو الأحجار الكريمة، حسب مكانة الأسرة الاجتماعية.
وعادةً ما يوضع "خيط الروح" على رأس المرأة، يعلوه وشاحٌ حريري يُسمى "محرمة الفتول"، وهو الوشاح الطويل الشهير الذي ترتديه النساء الجزائريات على الرأس.
ترتدي الجزائريات "الزروف" بشكلٍ أساسي مع الزي التقليدي، الكاراكو أو القويط، الذي كانت ترتديه الطبقة الأرستقراطية العاصمية في الأعراس وحفلات الختان. وكان يرمز إلى مكانة المرأة ولأي طبقةٍ تنتمي خلال الحقبة العثمانية، كما كانت ترتديه الجزائريات مع "الشدة التلمسانية"، الزي التقليدي المنتشر كثيراً في الغرب الجزائري.
ووفق التقاليد الجزائرية، عندما ترتدي المرأة فستاناً عصرياً تضع "خيط الروح" حول العنق وليس فوق الرأس، كما هو الحال مع الكاراكو. وهناك تفصيلٌ آخر لهذه الجوهرة؛ فالمرأة العازبة ترتدي "الزروف" الذي يحتوي على دمعةٍ واحدة فقط، تُصبح ثلاثة في حال كانت متزوجة.
توجد حالياً ثلاثة نماذج لهذه الجوهرة الثمينة في المتحف الوطني للآثار القديمة والفنون الإسلامية بالجزائر. تتكون كل النماذج من قطعة مركزية، هي عبارة عن زهرة أو أشكال متنوعة، قوامها وريقات نباتية، يأتي على جانبيها أزهار ووريقات، بشكلٍ تناظري. وهي أيضاً مرصّعة بالألماس.
ورغم أنها بدأت مع رجلٍ فقيرٍ لا يملك سوى قوت يومه، فإن هذا الحُليّ تحوّل إلى واحدة من أغلى المجوهرات لدى الجزائريين وأكثرها قيمة. لا يخلو حفل زفافٍ من "خيط الروح"، التي تزيّن أعناق الجزائريات ورأسهنّ، وقد بات اقتناؤها يحتاج إلى دفع الكثير من الأموال.
اليوم يُقدَّر ثمن أرخص نوع من "خيط الروح" بنحو 20 ألف دينار جزائري (أي ألف دولار)، ويصل سعر أغلى الأنواع إلى أكثر من 80 ألف دينار (8 آلاف دولار)، ويُحسب سعرها وفقاً لوزن الجوهرة والأحجار الكريمة المصنوعة منها. وأمام الارتفاع المهول لسعر هذه الجوهرة، عمد الكثير من الأولياء إلى طلب "الزروف" مهراً لبناتهم.