"لسنوات عديدة، كنت أؤمن أن الشمبانزي إلى حد كبير "ألطف" منا. وفجأة وجدت أنه يمكن أن يكون بنفس القدر من الوحشية".
المقتطف أعلاه مأخوذ من كتاب بعنوان "ثلاثون عاماً مع الشمبانزي في جومبي" الذي كتبته العالمة جين غودال. وعلى وجه التحديد، من فصل بعنوان "الحرب"، تصف فيه الكابتة واحداً من أكثر الصراعات المروعة التي حدثت في مملكة الحيوان: حرب الشمبانزي "جومبي" التي استمرت أربع سنوات انتهت بإبادة ممنهجة من أحد المجموعتين للأخرى.
إنشقاق مفاجئ بعد 15 سنة من التعايش يبدأ حرباً أهلية!
كانت جودال تعمل في متنزه جومبي ستريم الوطني في تنزانيا بهدف مراقبة الحيوانات في بيئاتها الطبيعية.
وبعد حوالي 15 عاماً من وجودها هناك، لاحظت العالمة حدثاً غريباً وغير مسبوق، وهو أن مجتمع الشمبانزي في المتنزه- المسمى بمجتمع "كاساكيلا"- قد انقسم فجأة ودون أي سبب مفهوم إلى فصيلين مختلفين.
وانتقل المجتمع المنشق، المكون من ستة ذكور وثلاث إناث، إلى قسم مختلف من الحديقة بينما بقي المجتمع الرئيسي، الذي يتكون الآن من ثمانية ذكور و12 أنثى، في مكانه.
المثير للاستغراب هو أن كلا الفصيلين بدأ يحرس حدوده الجديدة بشدة، مما أدى إلى حصول العديد من المشاجرات القاتلة غير المسبوقة.
وخلال هذه المشاجرات، أظهر الشمبانزي السلمي عادة مستويات استثنائية من القسوة والوحشية وكأنه في حرب حقيقية ضد عدو يتعدى عليه أو على أرضه.
الذي أوقع العلماء وخاصة غودال في حيرة كبيرة هو التغير الكبير في شخصيات الشمبانزي الذين عرفتهم لـ15 عاماً!
من ناحية أخرى، كانت تلك الحرب هي الحالة الأولى التي لاحظ فيها علماء الحيوانات أن للشمبانزي قدرة حقيقية على القتل بدم بارد مخطط له، وهو سلوك كان يعتبر قبل هذه الحادثة مقصوراً على الإنسان.
بداية الحرب، كمين مخطط له لقتل أحد القردة
يذكر موقع Big Think أن الحرب الحقيقية بدأت بمقتل شمبانزي يُدعى غودي عام 1974، بعد أشهر قليلة من انفصال المجتمعين في منطقتين مختلفتين.
كان غودي، وهو ذكر بالغ ينتمي إلى المجتمع المنشق المدعو "كاهاما"، يأكل من أوراق الأشجار عندما تعرض لكمين من قِبَل ستة ذكور من مجموعة "كاساكيلا".
وتصف غودال في كتابها كيف أمسك أحد الذكور بساق جودي وألقاه أرضاً. ثم قام المعتدون، في حالة من "الجنون الغاضب"، بتثبيته وضربه وعضه لأكثر من عشر دقائق. ثم، لسبب غير مفهوم، تركوه فجأة .
ظل غودي بلا حراك لبضع لحظات مستلقياً بعد إصابته بجروح بالغة في وجهه، وإحدى ساقيه، والجانب الأيمن من صدره وكدمات شديدة جراء الضربات العنيفة التي تعرض لها.. ثم مات متأثرا بجراحه.
لم يتوقف العنف عند هذا الحد، وواصل قرود شمبانزي الكساكيلا قتل أفراد مجتمع الكاهاما واحداً تلو الآخر، وكأنهم ينتقمون منهم لانشقاقهم عنهم!
أعمال عنف مع سبق الإصرار
من بين عشرات الهجمات التي قاموا بها، أسفرت خمسة عن حوادث قتل ولم تدم كل من هذه المواجهات المصيرية أكثر من عشر دقائق فقط! وقد تم جر جميع الضحايا الخمسة وتثبيطهم وضربهم وعضهم.
وفي حين أن معظم ضحايا المداهمات هم من الذكور، فإن الهجمات التي تستهدف الإناث حدثت أيضاً. ومع ذلك، فإنها تنطوي على قدر أقل من العدوانية.
وربما كانت أكثر عمليات القتل مأساوية هي تلك التي وقع فيها ضحية شمبانزي مسن يُدعى جالوت الذي حاول أن يكون ودوداً مع أعضاء مجتمع كاساكيلا طوال الصراع، لكن ذلك لم ينقذه من العنف.
وبعد قتله، بقي ثلاثة ذكور فقط من الشمبانزي من مجتمع كاهاما على قيد الحياة. الضحية التالية كانت تشارلي، شمبانزي كان يعاني من شلل الأطفال، مما جعله هدفاً سهلاً.
ثم اختفى أحد قردة الشمبانزي من كاهاما، ربما خوفاً من القتل. وتمكن آخر ذكر من البقاء على قيد الحياة لمدة عام آخر حتى قُتل في النهاية.
وفي المجموع، استمرت الحرب أربع سنوات حتى عام 1978 وانتهت فقط عندما تم القضاء على المجتمع المنشق تماماً، كما يشير موقع Discover Magazine.
هل تحاكي سياسات حرب الشمبانزي تلك عند البشر؟
بالنسبة لعلماء الحيوان، أظهرت حرب جومبي كيف يمكن أن يتداخل سلوك الإنسان والحيوان وأن الذي حصل على الأرجح كان نتيجة لصراع على السلطة بين أفراد المجتمع الذكور، والذي انتهى به الأمر إلى حرب منظمة.
كما يشير الاتساق الذي تم به تنفيذ الهجمات إلى أنها كانت سلوك متسق من قِبَل الشمبانزي، وليس حوادث عبثية حصلت في خضم حماس المعركة. لكن في الوقت نفسه، لم يستطِع العلماء إيجاد تفسير حاسم لطبيعة الشمبانزي شديدة العنف التي ظهرت فجأة، لكن هناك بعض الفرضيات.
تنافس على الموارد الطبيعية والإنجابية؟
في بحث أكاديمي حاول العلماء جوزيف مانسون وريتشارد رانجهام تفسير ما وصفوه بالغارات المميتة لقردة الشمبانزي.
ورغم أنهم لم يصلوا لإجابة حاسمة لكنهم توصلوا لفرضيتين ممكنتين وهما التنافس على الموارد الطبيعية وكذلك الموارد الإنجابية.
هذا التفسير يناسب بالتأكيد مجتمع كاساكيلا الذي كان يضم قبل الانقسام أعداداً متساوية تقريباً من الأعضاء من الذكور والإناث. هذا التقسيم لا يعتبر مثالياً لمجتمعات الشمبانزي، التي تكون أكثر استقراراً عندما يتجاوز عدد الأعضاء الإناث عدد الذكور.
إذ تؤدي النسب الجنسية المتحيزة للذكور إلى زيادة المنافسة بين الذكور. في جومبي، اتخذت هذه المنافسة شكل حرب العصابات، حيث يقاتل كل مجتمع من أجل الحق في إناث الآخر.
تفسير آخر… لم يتكلف قردة الكاسكيلا أي خسائر، قتلوا لأنهم يستطيعون!
رغم أن الفرضية السابقة مقنعة، لكنها لا تزال تفشل في تفسير القسوة المفرطة التي مارستها مجموع كاساكيلا.
للعثور على إجابة، لم ينظر الباحثون في فائدة القتل من قبل التحالف بل إلى تكلفته التي كانت في حالة الشامبانزي قليلة أو معدومة.
فقد تم تنفيذ المداهمات في مجموعات كبيرة، وكانت تستهدف فقط الشمبانزي الفردي غير المصحوب بذويه. ثم يتم تثبيت هذه الشمبانزي، بحيث يمكن للمعتدين أن يلحقوا كل الضرر الذي يريدونه دون القلق من احتمال تعرضهم للأذى.
"البعد يخلق العداء"، الانشقاق كان السبب!
هناك نظرية قديمة ومعروفة في علم النفس تسمى فرضية الاتصال. وهي تشير إلى أن الاتصال بين مجموعتين، من الناحية المثالية وفي ظل ظروف متساوية، يعزز التسامح والقبول.
وفي حين أن هذه الفرضية في الأساس وجدت لدراسة السلوك البشري، إلا أنها تنطبق أيضاً في حالة قرود جومبي.
إذ بمجرد انفصال المجموعتين وتوقف الاتصال، اشتد العداء بينهما، وتلاشى أي احتمال لحلول السلام بينهما تماماً بين صراع "نحن" مقابل "هم".
وفي حين أن حرب الشمبانزي في جومبي ليست مطابقة تماماً للحرب البشرية، إلا أنها متشابهة بشكل لافت للنظر في الوحشية والولاء للقبيلة.