تظهر أزمة تايوان بما فيها زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي للجزيرة مؤخراً حجم التناقضات الغربية، ولا سيما الأمريكية في التعامل مع الصين، بل تناقضات الغرب في التعامل مع القانون الدولي والتعهدات التي وضعتها دوله الرئيسية بما في ذلك اعترافهم بمبدأ الصين الواحدة.
خلال الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الأمريكي، جو بايدن، والصيني، شي جين بينغ، الخميس الماضي، والذي تناول زيارة بيلوسي المثيرة للجدل لتايوان قال بايدن لنظيره الصيني إن سياسة الولايات المتحدة بشأن تايوان لم تتغير، وأنه أيضاً أكد معارضة واشنطن لأي جهود أحادية لتغيير الوضع الراهن أو تقويض السلام بمضيق تايوان.
ورغم أن النص قد يبدو غامضاً، إلا أن تعبيري "الوضع الراهن، و"سياسة الولايات المتحدة بشأن تايوان لم تتغير"، تعنيان بمنتهى البساطة أن أمريكا مثلها مثل بكين نفسها لا تعترف سوى بوجود صين واحدة، وأن هذه الصين هي الصين الشعبية، وليس الصين الوطنية كما كانت تسمى تايوان.
يُظهر ذلك الموقف تناقضات الغرب، ولا سيما أمريكا الكاملة، ففي الأصل كانت سياسة الصين الواحدة سياسة غربية، وتايوانية مثلما هي سياسة صينية.
فعندما نشأت تايوان ككيان يحكم بشكل منفصل عن بقية الصين، إثر فرار حكومة حزب الكومينتانغ بعد انهيار سلطتها في البر الرئيسي للصين عام 1949 أمام قوات الحزب الشيوعي، لم يقرر حزب الكومينتانغ، الذي كان قبل ذلك الحزب الحاكم الرئيسي في الصين، إنشاء دولة مستقلة، بل أعلن أنه يمثل الصين الرسمية، وأن حكومة تايوان الجزيرة التي تبلغ مساحتها 36 ألف كيلومتر، أي نحو 3.76 % من مساحة الصين، ويسكنها في ذلك الوقت بضعة ملايين هي الممثل الرسمي للصين، أكبر دولة في العالم من حيث السكان.
بمنتهى البساطة أكسب الغرب هذا الوضع الكوميدي حالة شرعية تامة؛ لدرجة أن تايوان كانت عضواً دائماً في مجلس الأمن باعتبارها الصين الرسمية، واستمرت هذه العضوية قائمة إلى أن صوت أعضاء الأمم المتحدة في عام 1971 للاعتراف بجمهورية الصين الشعبية بدلاً من ذلك.
وتبادلت تايوان والصين الادعاء بأن كلاً منهما، الممثل الشرعي الوحيد للصين وأراضيها بما فيها تايوان، ولكن في الوقت الحالي يعترف أغلب دول العالم، بما فيها كل الدول الغربية تقريباً، على رأسها الولايات المتحدة تعترف بحكومة بكين ككمثل رسمي للصين، ولا ترتبط الدول الغربية، بما فيها واشنطن، بعلاقات رسمية مع تايوان، على الرغم من الدعم القوي العسكري والسياسي الذي تقدمه للجزيرة.
تايوان كانت تعترف بمبدأ الصين الواحدة
تستند الصين في مطالبتها بضم تايوان إلى ما يُعرف بمبدأ الصين الواحدة، والمفارقة هنا أن تايوان والصين أنفسهما كان يتفقان منذ انشقاق الجزيرة بسياسة الصين واحدة، ولكن يختلفان على من يمثلها، إلا أن تايوان بدأت في التخلي عن هذا المبدأ.
قبل التعديلات الدستورية لعام 1991 وإرساء الديمقراطية في تايوان، اعتبرت حكومة تايوان التي يهيمن عليها حزب الكومينتانغ هي الحكومة الشرعية الوحيدة للصين وأراضيها المحددة دستورياً، بما في ذلك حدود أسرة تشينغ السابقة في البر الرئيسي للصين، وأيضاً تم تصنيف الحزب الشيوعي الصيني على أنه "جماعة متمردة".
وبصفة عامة ظلت سياسة الصين الواحدة هي السياسة الرسمية لتايوان حتى بداية التسعينيات.
في عام 1992، أكد حزب الكومنتانغ الذي أسس تايوان، على أن كلاً من جمهورية الصين الشعبية وجمهورية الصين قد اتفقتا على وجود "الصين" واحدة، لكنهما اختلفتا حول ما إذا كانت "الصين" ممثلة من قبل جمهورية الصين الشعبية، أم جمهورية الصين (تايوان)، هذا التفسير لتوافق عام 1992 لم تقبله جمهورية الصين الشعبية.
حدثت تغييرات داخل تايوان بشأن سياسة الصين الواحدة، وظهرت قوى سياسية تعتبر البلاد دولة مستقلة، ولكنها القضية مازالت مسألة خلافية داخل تايوان حتى لو تراجع زخم مبدأ الصين الواحدة.
كان أول مظاهر التغيير، في عام 1991، عندما أشار الرئيس التايواني في ذلك الوقت لي تنغ هوي إلى أنه لن يتحدى السلطات الشيوعية لحكم الصين القارية. هذه نقطة مهمة في تاريخ العلاقات عبر المضيق، حيث لم يعد رئيس تايوان يطالب بالسلطة الإدارية على البر الرئيسي للصين.
بعد ذلك، اكتسبت حركة استقلال تايوان دفعة سياسية، وتحت إدارة التايواني "لي" لم تعد القضية هي من يحكم الصين، بل من يدعي السلطة الشرعية على تايوان والجزر المحيطة بها.
وأصبحت سياسة الصين الواحدة قضية خلال الانتخابات الرئاسية لتايوان عام 2004. حيث تخلى تشين شوي بيان عن غموضه السابق ورفض علناً مبدأ الصين الواحدة زاعماً أنه يعني ضمناً أن تايوان جزء من جمهورية الصين الشعبية. أيد خصمه ليان تشان علناً سياسة "الصين الواحدة، مع تفسيرات مختلفة"، في نهاية انتخابات 2004، أعلن ليان تشان وزميله في الترشح، جيمس سونغ، لاحقاً أنهما لن يطرحا التوحيد النهائي، باعتباره هدف سياستهم عبر المضيق، ولن يستبعد احتمال استقلال تايوان في المستقبل.
في مقابلة صحيفة قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2004، استخدم تشين نموذج ألمانيا والاتحاد الأوروبي كأمثلة لكيفية توحيد البلدان، والاتحاد السوفييتي لتوضيح كيف يمكن أن تتفتت دولة ما.
في عام 2008 انتخب ما ينج جيو رئيساً لتايوان، ونشأت حقبة جديدة من العلاقات الأفضل بين جانبي مضيق تايوان. وزار مسؤولو حزب الكومينتانغ البر الرئيسي للصين، والتقوا المسؤولين الصينيين في بكين وتم إنشاء رحلات الطيران العارض المباشر.
ولكن التوجهات الانفصالية ازدادت قوة في البلاد مؤخراً بدعم من الغرب، وقد يكون بسبب سياسة الرئيس الصيني الحالي الأكثر تشدداً.
لماذا غيرت تايوان سياستها بشأن الصين الواحدة؟
ظل حكام تايوان لعقود ينتمون لمجموعة بشرية تدعى Waishengren، تمثل حالياً نحو 10% من السكان، وهم النخبة التي جاءت إلى تايوان من الصين القارية في الفترة بين الاستسلام الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، ونهاية الحرب الأهلية الصينية في عام 1949، بينما تم تهميش فئة الـ"Benshengren" وهم الصينيون الذين وصل أسلافهم إلى تايوان قبل عام 1945، وعادةً ما ينتمون إلى عرقيتي هوكلو وهاكا، الذين عاشوا تحت الحكم الاستعماري الياباني، وتعود جذورهم للجنوب الصيني، حيث جاءوا لتايوان بدءاً من القرن السابع عشر بتشجيع من الاستعمار الغربي، ولغتهم الأصلية مختلفة عن لغة الماندرين، اللغة الرسمية في تايوان والصين.
كما عومل السكان الأصليون لتايوان، والمختلفون تماماً عرقياً عن الصينيين، كمواطنين من الدرجة الثالثة، رغم أنهم جاءوا للجزيرة قبل آلاف السنين.
غير أن أموراً كثيرة تغيرت، فمع تولي أجيال جديدةٍ السلطة في تايوان إثر ترسيخ الديمقراطية في البلاد وصعود الصين وفقدان النخبة التي أسست البلاد الأمل في استعادة حكم بكين، تخلت تايوان عن اعتبار نفسها ممثلة رسمية للصين برمتها.
وتقدم جيل جديد من الساسة ينتمون في أغلبهم إلى قومية هوكلو، أكبر مجموعة عرقية (70% من إجمالي السكان)، الذين هاجر أسلافهم من منطقة فوجيان الجنوبية الصينية الساحلية عبر مضيق تايوان بدءاً من القرن السابع عشر، ويشجع الغرب هذه التوجهات أو لا يعارضها علناً على الأقل.
وبات سكان تايوان يدعمون بشكل متزايد، فصل العلاقات الثقافية مع البر الرئيسي للصين، حيث كشفت الدراسات الاستقصائية التي أجريت في عام 2019، أن معظم سكان الجزيرة يعتبرون أنفسهم تايوانيين وليسوا صينيين، علماً بأنه ما زالت هناك اختلافات كبيرة بين أطياف الشعب التايواني بشأن مسألة الانتماء للصين حسب العرقية والعمر وتاريخ الهجرة والانتماء الحزبي.
حالياً تحتفظ تايوان بعلاقات دبلوماسية رسمية مع نحو 13 من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة أغلبها دول صغيرة جداً وحليفة للغرب، وتتلقى مساعدات من تايبيه.
وحدة البر الرئيسي للصين مهدَّدة إذا انفصلت تايوان
مما يجعل الأمر مثيراً للقلق بالنسبة لبكين، أن التوجهات المؤيدة لـ"سياسة الصين الواحدة" أقوى بين التايوانيين المنحدرين من أصول المهاجرين الذين جاءوا من البر الرئيسي للصين عام 1949، وأغلبهم من شمال الصين، وخاصة من بكين ومحيطها، بينما التوجهات الانفصالية تبدو أقوى بين أوساط التايوانيين الذين ينحدرون من أصول مهاجرة جاءت من جنوب الصين قبل بضعة قرون.
يعني ذلك أن تزايد قوة التوجهات الانفصالية في تايوان، لا ينذر بخطر فقط انفصال الجزيرة الدائم عن بكين، ولكنه قد يكون ملهماً لبعض شعوب جنوب الصين التي ينحدر منها أغلب التايوانيين، فتايوان المنفصلة بدعم من عرقيتي هوكلو وهاكا اللتين تعود جذورهما لجنوب الصين يمثل إلهاماً للعرقيتين في موطنهما الأصلي في جنوب البلاد للانفصال أو التعبير عن الهوية الذاتية، يعني ذلك أن إنفصال تايوان قد يهدد وحدة الصين البر الرئيسي نفسها.
موقف الولايات المتحدة من مبدأ الصين الواحدة
أما الولايات المتحدة فهي لم تعترف يوماً بأن هناك أكثر من صين مما يعني اعترافاً بمبدأ الصين الواحدة، ولكنها غيرت موقفها بشأن من يمثل هذه الصين تايبيه أو بكين.
من الناحية النظرية، وتعترف الولايات المتحدة حالياً بجمهورية الصين الشعبية باعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة للصين، وقبل ذلك كانت تعترف بأن حكومة تايوان هي بمثابة حكومة الصين الشرعية الوحيدة.
وبدأت عملية إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في فبراير/شباط 1972 عندما زار الرئيس نيكسون الصين. أنتجت تلك الزيارة "بيان شنغهاي" ، الذي كان اعترافاً من الصين والولايات المتحدة بأن البلدين يواجهان عقبات في إقامة العلاقات الدبلوماسية، ولكنهما سيعملان أيضاً على "تطبيع" العلاقات بينهما.
تم ذكر سياسة صين واحدة من قبل الولايات المتحدة بشكل صريح لأول مرة في بيان شنغهاي بين بكين وواشنطن الذي صدر عام 1972، وجاء فيه: "تقر الولايات المتحدة بأن الصينيين على جانبي مضيق تايوان يصرون على أنه لا يوجد سوى صين واحدة، وأن تايوان جزء من الصين، وأن الولايات المتحدة لا تتحدى هذا الموقف".
وكان موقف بكين رفضها لإقامة الولايات المتحدة لعلاقة مع جمهورية الصين الشعبية و"جمهورية الصين" و"تايوان" – لأن ذلك يعني أن الولايات المتحدة تعتقد أن هناك "صينين"، وليس صيناً واحدة فقط.
علاوة على ذلك، طالبت الصين الولايات المتحدة بسحب قواتها المتمركزة في تايوان، لكن رفضت جمهورية الصين الشعبية تقديم وعد بأنها لن تستخدم القوة "لإعادة توحيد" جزيرة تايوان مع البر الرئيسي للصين، وهو ما طلبت الولايات المتحدة من جمهورية الصين الشعبية أن تتعهد به.
هنا تظهر نقطة مهمة بشأن وضع تايوان وعلاقة الولايات المتحدة.
فخلال المباحثات الرامية لإقامة علاقات بين بكين وواشنطن قالت حكومة جمهورية الصين الشعبية أن قضية تايوان مشكلة "داخلية". إنها تعني فقط الصينيين في تايوان والصينيين في البر الرئيسي ، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تتدخل. بينما قالت الولايات المتحدة في "بيان شنغهاي"، إنها لم تطعن في الادعاء بوجود صين واحدة ولكنها ستصر على "تسوية سلمية لمسألة تايوان".
وفي عام 1979، أقامت الولايات المتحدة علاقة رسمية مع الصين وبالتالي اعتبرت أن الصين الشعبية هي الممثل الوحيد للصين بما في ذلك تايوان.
إثر إقامة الولايات المتحدة والصين علاقات دبلوماسية كاملة في عام 1979، رد الكونغرس الأمريكي بسرعة بإقرار قانون العلاقات مع تايوان الذي أكد على العلاقات مع تايوان، لكنه توقف عن الاعتراف الكامل بها. كما طالب القانون الولايات المتحدة بتزويد تايوان بأسلحة كافية للحفاظ على دفاعها عن النفس، لكنه لم يلزمها بالدفاع عن تايوان في حالة حدوث غزو.
موقف الولايات المتحدة من سياسة الصين واحدة، كما هو موضح في تقرير سياسة الصين/تايوان: تطور "الصين الواحدة" لخدمة أبحاث الكونغرس (التاريخ: 9 يوليو/تموز 2007)، يعترف بسياسة الصين الواحدة ولكن لم تعترف السياسة الأمريكية بسيادة جمهورية الصين الشعبية على تايوان، ولا بتايوان كدولة ذات سيادة؛ واعتبرت السياسة الأمريكية أن وضع تايوان غير مستقر.
ظلت هذه المواقف دون تغيير في تقرير 2013 لخدمة أبحاث الكونغرس.
في 6 ديسمبر/كانون الأول 2016، قال الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إن الولايات المتحدة ليست ملزمة بالضرورة بسياسة "صين واحدة"، ولكن في 9 فبراير/شباط 2017، في مكالمة هاتفية مطولة ، ناقش الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وزعيم جمهورية الصين الشعبية شي جين بينغ العديد من الموضوعات ووافق الرئيس ترامب، بناءً على طلب شي جين بينغ، على احترام سياسة "الصين الواحدة".
في 23 مايو/أيار 2022، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن الولايات المتحدة ستتدخل عسكريا إذا قامت الصين بغزو تايوان من جانب واحد. في حديثه في اليابان، صرح الرئيس بايدن، "هذا هو الالتزام الذي قطعناه على أنفسنا"، في إشارة واضحة إلى قانون العلاقات مع تايوان، الذي يضمن الدعم العسكري لتايوان، على الرغم من أن القانون لا يضمن على وجه التحديد العمل العسكري المباشر من قبل الولايات المتحدة في تايوان.
صرح بايدن لاحقاً أن ملاحظاته لا تمثل تغييراً عن الوضع الراهن وموقف الولايات المتحدة من الغموض الاستراتيجي، كما ألقى وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكين خطاباً ذكر فيه أن سياسة الولايات المتحدة بشأن الجزيرة لم تتغير، وقامت وزارة الخارجية الأمريكية بتحديث صحيفة الحقائق الخاصة بها لإعادة سطر يقول "نحن لا ندعم استقلال تايوان".
ماذا تغير بشأن سياسة الصين الواحدة واقعياً؟
من الناحية الرسمية لم يحدث تغيير كبير في موقف الولايات المتحدة من سياسة الصين الواحدة، ولكن هناك تناقضات وغموض في الموقف الأمريكي من هذه السياسة والتفسيرات اللاحقة التي أضيفت لها والأسوأ التصرفات على الأرض.
ففعلياً سياسة الصين الواحدة من وجهة نظر أمريكية تعني أن تايوان جزء من الصين، ولكن ليست خاضعة للحزب الشيوعي، وتركز وسائل الإعلام الغربية حالياً عند حديثها بشأن أزمة تايوان على فكرة أن الحزب الشيوعي يدعي حقه في حكم تايوان التي لم يحكمها يوماً.
ويمثل هذا التفسير الغربي إشكالية كبيرة، لأنه يفترض بما أن الغرب يعترف بالصين الشعبية التي يحكمها الحزب الشيوعي وبأن تايوان جزء من الصين، فإنه يعترف بأن حكومة الصين الشرعية هي من حقها حكم تايوان، وإذا اتخذ موقفاً معاكساً، فإنه يقلل من شرعية حكم الحزب الشيوعي للصين نفسها.
ولكن إضافة للتفسيرات الأمريكية الغامضة، فإن ما يحدث واقعياً أن الولايات المتحدة تشجع الحكومة التايوانية الحالية التي تدعو لتشكيل هوية تايوانية مستقلة وتلغي النظير التايواني لسياسة الصين الواحدة، وهو أمر يجعل الولايات المتحدة لا تتحدى فقط الحزب الشيوعي، بل أيضاً الأمة الصينية برمتها، والتي يؤمن أغلبها بأن تايوان جزءاً من الصين بما في ذلك قطاع كبير من التايوانيين.
بكين اقترحت إعادة التوحيد مع احتفاظ تايوان بنظامها
وبدلاً من تشجيع الطرفين على بناء صين واحدة منفتحة وديمقراطية وقابلة لاستيعاب مكونات البلاد المختلفة، فإن الولايات المتحدة تتحدى الشعور الوطني الصيني، وتكسب حزب الشيوعي مزيداً من الشرعية، حيث يصور نفسه أمام الشعب الصيني أنه يتصدى لمحاولات الأجانب لتقسيم البلاد.
واللافت أنه سبق أن أبدت الصين خاصة قبل عهد الرئيس الحالي، استعداداً للتساهل في مسألة طرق الوحدة مع تايوان، وروجت لنموذج دولة واحدة ونظامين، الذي تبنته في حالة هونغ كونغ، حيث سمحت بمساحة من الحرية السياسية وقدر هائل من الإدارة الذاتية بما في ذلك امتلاك هونغ كونغ لعملة مستقلة وإبرامها اتفاقات تجارة حرة مع دول غربية مثل الولايات المتحدة.
وسبق أن صرحت جمهورية الصين الشعبية بأنها مرنة بشأن معنى "صين واحدة"، وأن "صين واحدة" قد لا تكون بالضرورة مرادفاً لجمهورية الصين الشعبية ، وقد عرضت التحدث مع الأحزاب والحكومة في تايوان على أساس إجماع عام 1992 في تايوان الذي ينص على وجود صين واحدة، مع اختلاف التفسيرات حول ماهية هذه الصين.
على سبيل المثال، في تصريحات رئيس مجلس الدولة الصيني تشو رونغجي قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2000 في تايوان، ذكر أنه ما دامت أي سلطة حاكمة في تايوان تقبل مبدأ الصين الواحدة، يمكنها التفاوض ومناقشة أي شيء بحرية.
سياسة الولايات المتحدة الحالية تجاه أزمة تايوان، هي بمثابة إدارة بالأزمة وليس إدارة للأزمة بهدف حلها، فهي لا تقدم مقاربة لإنهاء الخلاف، بل هي تواصل تسعيره، مع تحديها الشعور الوطني الصيني وليس الحزب الشيوعي فقط.
ما تحتاجه الولايات المتحدة، أن تتحول مسألة توحيد الصين وتايوان إلى حافز للقيادة الصيني والشعب الصيني لخلق نظاماً أكثر انفتاحاً، فبدلاً من تشجيع تايوان على تعزيز التوجهات الإنفصالية، بطريقة تجعل نخبتها الحاكمة في نظر الشعب الصيني مجرد دمي في يد الغرب، يجب أن تسعى تايوان والولايات المتحدة لدفع الصين لشرح وجهة نظرها بشأن الخيارات السلمية لإعادة دمج الجزيرة، عبر سياسة دولة واحدة ونظامين، والضمانات التي ستقدمها للحفاظ على أكبر مساحة للاستقلال الذاتي الممكنة لتايوان.
في الوقت الحالي تلمح الولايات المتحدة إلى إمكانية إشعالها حرباً مع الصين إذا هاجمت الأخيرة تايوان حرب قد يموت فيها آلاف الجنود الأمريكيين للدفاع عن بلد لا تعترف واشنطن باستقلاله من الناحية الرسمية، بل تعده جزءاً من الصين.
لا يبدو هذا أمراً مستفزاً للصينيين فقط، بل حتى للجنود الأمريكيين الذين يفترض أن يدافعوا عن تايوان مع تعهد بايدن الأخير بالدفاع عن الجزيرة إذا هاجمتها الصين.
كانت فترة الانفتاح بين النخب الحاكمة في الصين وتايوان خلال مطلع الألفية والتعاون الاقتصادي الوثيق في ذلك الوقت أداة لاستطلاع آفاق لحل الأزمة ووضع تصورات لشكل التوحيد المقترح، حيث تؤدي تعزيز الروابط ليس فقط لتسهيل حل الأزمة، بل توفير عوامل مانعة لانفجارها أيضاً.
ولكن تزامن وصول الرئيس الصيني شي جين بينغ الحالي للسلطة بسياسته المتشددة في مجال الحريات وتبني القومية الصينية المتشددة، مع استخدام الغرب لتايوان كمخلب قط في مواجهة بكين، وصعود التوجهات الانفصالية لدى الشعب التايواني ليزيد الأمور تعقيداً، ويحول تايوان من نموذج محتمل لحل الأزمات بطريقة سلمية تتضمن إعادة توحيد أقاليم متباينة إثنيا وسياسياً واجتماعياً، مثلما حدث مع هونغ كونغ إلى منطقة مرشحة لأن تكون فتيل حرب عالمية ثالثة أو على الأقل أن تشعل حرباً عالمية تدور بالوكالة مثل الحرب الأوكرانية في شرق أوروبا.
ماذا ستفعل الصين رداً على زيارة بيلوسي؟.. الخيار الإسرائيلي هو المرجح
في الأغلب فإن رد فعل الصين على زيارة بيلوسي والسياسات الأمريكية، لم يكون بنفس حدة رد الفعل الروسي على السياسات الغربية التحريضية والغامضة بشأن إنضمام كييف للناتو والتي كانت أحد أسباب أزمة أوكرانيا.
لن تقدم الصين على الأرجح على غزو عسكري شامل للجزيرة المحصنة والتي لديها جيش أكثر تدريباً وكفاءة من الجيش الأوكراني، وهي حرب قد تخاطر الصين فيها بهزيمة محرجة قد أسوأ مما يتعرض له الجيش الروسي في أوكرانيا، وقد تؤدي مثل هذه الحرب أيضاً إلى مقاطعة غربية للصين تعرقل نهضتها.
ولكن على الأرجح فإن بكين سوف تنفذ توغلات في المياه والأجواء التايوانية وقد يصل الأمر إلى تحرش عسكري لن يبلغ حد الهجوم الشامل على الجزيرة المنشقة، وقد تسعى الصين تدريجياً إلى اكتساب وضع يشبه وضع إسرائيل في سوريا ولبنان، حيث يصبح متاحاً لها تنفيذ عمليات توغل أو حتى غارات جوية دون الوصول لحرب شاملة.
وبصرف النظر عما ستفعله الصين على المدى القريب، فإن المؤكد أنه على المدى البعيد فإن بكين أصبحت لا تعول كثيراً على إعادة التوحيد مع تايوان بشكل سلمي ومنفتح مثلما حدث مع هونغ كونغ، وأنها تراهن أكثر على الحل العسكري حتى ولو بعد فترة زمنية طويلة.
ومع تزايد إمكانات الصين الاقتصادية والعسكرية، وتراجع الفجوة بينها وبين واشنطن، فإن قدرتها على تنفيذ هذا الحل تتزايد، وسوف تنتظر بكين اللحظة المناسبة، وهي أن تصبح قوية بما يكفي لردع ومنع الولايات المتحدة من التدخل لحماية تايوان أو حتى دعمها بمساعدات عسكرية لكي تنفذ بكين هجومها المحتمل على الجزيرة، بأقل قدر من الخسائر.
ويبدو احتمال حدوث هذا السيناريو مسألة وقت فقط، فالصين بالفعل تقلص الفجوة في القدرات بينها وبين أمريكا، خاصة في المجال البحري حيث أعلنت مؤخراً استعدادها لإطلاق ثالث حاملة طائرات.
ومن الواضح أن الغرب أصبح يتحسب لهذا السيناريو، وهو تحسب يظهر في جهود الولايات المتحدة لتنويع مصادر صناعة الرقائق الإلكترونية بعيداً عن الاحتكار التايواني، لدرجة الضغط على شركات الجزيرة العملاقة لإنشاء مصانع لأشباه الموصلات في الولايات المتحدة، وما هذا مؤشر على أن الغرب يعلم أن تايوان ستقط في يد بكين ولو بعد حين.
المشكلة أن الغرب، رغم علمه بذلك، فإنه يواصل تشجيع تايوان على التمرد وزيادة شقة الخلاف مع بكين، وكأنه يريد التضحية بتايوان على مذبح حربه البادرة مع الصين، وهي حرب إن تحولت لساخنة فلن يتدخل فيها الغرب للدفاع عن تايوان تاركاً مصيرها بين يدي الحزب الشيوعي الصيني.