لم تكن أسواق الطاقة العالمية قبل نحو 5 شهور، تتوقع أن تتعرض إلى ضغوط هبوطية تهدد بتراجع أسعار النفط الخام دون 80 دولاراً للبرميل.
في 8 مارس/آذار الماضي، بلغ سعر برميل نفط برنت 139 دولاراً بسبب تبعات الحرب الروسية الأوكرانية، قبل أن يتراجع لبقية الشهر عند متوسط 120 دولاراً للبرميل.
وفي الشهور اللاحقة ظل سعر برميل برنت يراوح عند متوسط 115 – 120 دولاراً، مع استمرار المخاوف من زيادة الطلب وشح المعروض، على خلفية عقوبات طالت النفط الروسي.
وروسيا، ثاني أكبر منتج للنفط الخام في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية بمتوسط إنتاج يومي 10.7 ملايين برميل يومياً، تصدّر منها قرابة 5 ملايين برميل يومياً.
ضغوط غير تقليدية
ولطالما كانت أسواق النفط العالمية متأثرة بأسباب لا علاقة لها بقطاع الطاقة مباشرة؛ إذ تنوعت بين أسباب سياسية أو صحية أو جيوسياسية.
لكن خلال الشهرين الجاري والماضي، تعاني سوق الطاقة العالمية من ضغوط لدى أكبر مستهلك للنفط الخام في العالم، وأكبر مستورد له، وهما الولايات المتحدة والصين على التوالي.
تتمثل هذه الضغوط بمخاوف وقوع الاقتصاد الأمريكي في براثن الركود، بينما ما زالت الصين تحت عمليات غلق بين فترة وأخرى بسبب جائحة كورونا، إلى جانب ظهور أزمة عقارات متصاعدة.
تمارس الصين سياسة صارمة تجاه فيروس كورونا، تسمى بسياسة "صفر كوفيد"، تتمثل بغلق كامل للمدينة التي تزيد فيها الإصابات الجديدة عن عدد معين.
هذا الغلق، طال مدناً وأحياء ومراكز تجارية وصناعية ولوجستية، لها أهمية ليس فقط على مستوى الصين، ولكن على مستوى العالم، كما حصل الشهر الماضي مع مدينة شنغهاي، العاصمة المالية للصين.
لكن مؤخرا، تعرضت الصين إلى بوادر أزمة عقار قاسية قد تطال قطاعات اقتصادية أخرى؛ إذ وصل العديد من شركات العقار الضخمة في البلاد إلى مرحلة تعجز فيها عن الاستمرار في البناء بسبب أزمات سيولة.
هذه الأزمة، قد تمتد لتطال قطاع الصناعات الإنشائية، وبالتالي تظهر مؤشرات تراجع الطلب المحلي على النفط ومشتقاته، والتي تعد من مدخلات الإنتاج الرئيسية.
بالأرقام، تعتبر الصين ثاني أكبر مستهلك للنفط الخام في العالم بعد الولايات المتحدة، بمتوسط يومي 13 مليون برميل يومياً، وأكبر مستورد للخام بمتوسط يومي 10 ملايين برميل يومياً.
مخاوف الركود
الخميس 29 يوليو/تموز 2022، قالت وزارة التجارة الأمريكية إن الاقتصاد الأمريكي انكمش في الربع الثاني بنسبة 0.9% بالقراءة الأولى بعد انكماش بنسبة 1.6% في الربع الأول.
نظرياً، يعني ذلك أن الولايات المتحدة دخلت حالة ركود بسبب تسجيلها فصلين متتاليين من النمو السالب، وهو ما يذكي مخاوف حقيقية من تبعات أكثر قسوة على الأسواق المحلية.
الشهر الماضي، تراجعت أسعار الوقود في الولايات المتحدة من مستوياتها التاريخية البالغة قرابة 5.5 دولارات للغالون (الغالون يعادل 3.72 لترات).
إلا أن التراجع يرجح أنه يعود إلى تراجع الطلب على المشتقات من جانب المستهلكين، وليس بسبب جهود حكومية أفضت إلى خفض الأسعار.
صحيح أن الفيدرالي الأمريكي يريد خفض أسعار المستهلك (التضخم) بصدارة الغذاء والطاقة، إلا أنه من المهم بالنسبة للفيدرالي معرفة سبب هذا التراجع.
الفيدرالي ومن خلفه الرئيس الأمريكي جو بايدن، رفضا فكرة أن الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود، وأكدا أنها أحد أشكال التباطؤ الاقتصادي والذي سرعان ما سيعود إلى طريق النمو.
هذه المخاوف من الركود، تعتبر اليوم السبب الأول في تراجع أسعار النفط الخام قرب مستويات 100 دولار للبرميل، مقارنة مع متوسط 120 دولاراً حتى نهاية يونيو/حزيران الماضي.
وتعتبر فرضية وقوع الاقتصاد الأمريكي في ركود، أن تحالف "أوبك+" الذي سيجتمع غداً الأربعاء، سيكون حذراً تجاه أية زيادات في إنتاج النفط الخام.
والولايات المتحدة، أكبر مستهلك للنفط الخام في العالم بمتوسط يومي 17.5 مليون برميل يومياً، وثاني أكبر مستورد له بعد الصين بمتوسط 6.5 ملايين برميل يومياً.
ما هو الركود؟
بالنسبة للكثيرين، التعريف غير الرسمي هو أن الركود يبدأ بعد ربعين متتاليين من الانكماش الاقتصادي، ويُقاس بالانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي، وهو مقياس واسع لأسعار السلع والخدمات. في الشهور الثلاثة الأولى لهذا العام، انخفض الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بمعدل سنوي قدره 1.6%.
وأعلنت وزارة التجارة الأمريكية انخفاض الناتج المحلي الإجمالي مجدداً في الربع الثاني بمعدل سنوي قدره 0.9%.
ويعرف الركود على أنه "تراجع هائل في الأنشطة الاقتصادية ينتشر في جميع المجالات الاقتصادية، ويستمر أكثر من بضعة أشهر".
بينما ينظر صندوق النقد الدولي عند تحديد حالات الركود على الصعيد العالمي إلى مؤشرات عديدة تتضمن انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المعدل حسب التضخم المدعوم بضعف الإنتاج الصناعي، والتجارة وتدفق رأس المال واستهلاك النفط والبطالة.
وغالباً ما يحدث الركود لسبب كبير ومفاجئ مثل الزلازل أو البراكين أو أزمة صحية كبرى، كانتشار وباء (كورونا على سبيل المثال)، أو اندلاع حرب كبرى (حرب أوكرانيا)، أو لأسباب أخرى من هذا القبيل، وربما يكون السبب تراكمياً وغير مفاجئ؛ مثل التراكم الهائل في الإقراض الثانوي، كما حدث في الأزمة المالية عام 2008.
إذن، فهل ما تمر به أمريكا الآن هو ركود؟
تقول صحيفة The Guardian البريطانية: ليس بهذه السرعة. رسمياً، المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية، مؤسسة غير ربحية لمجموعة من الخبراء الاقتصاديين، هو من يحدد ويعلن عندما تكون الولايات المتحدة في حالة ركود.
ينظر المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى جانب عوامل أخرى، مثل معدلات التوظيف والدخل الشخصي والإنتاج الصناعي، وغيرها من العوامل.
يفضل مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي والحكومة ألا ينظر العامة إلى الركود وفقاً لمؤشر الناتج المحلي الإجمالي فقط، بل يفضلون ألا يفكر العامة في ذلك الأمر على الإطلاق، مؤكدين أن الأمر أكثر تعقيداً.
وعند النظر إلى سوق العمل، نرى معدلات البطالة 3.6%، في أدنى مستوى منذ ما يقرب من نصف قرن. كما ترتفع الأجور، بالرغم من أنها لا تواكب التضخم، وتم توظيف 2.7 مليون شخص خلال النصف الأول من هذا العام.
لكن في الوقت نفسه، انهارت ثقة المستهلكين، وأدى التضخم إلى صعوبات حقيقية حتى لمن لديهم وظائف، وبدأت معالم الهدوء تظهر سريعاً على السوق العقاري الذي كان نشطاً في بعض المناطق، مع تذبذب أسواق الأسهم، على أحسن تقدير. ومع ذلك، إذا كان الجمهوريون في السلطة، من المؤكد أن الديمقراطيين كانوا سيطلقون على التراجع في الناتج المحلي الإجمالي لربعين متتاليين ركوداً، بحسب صحيفة الغارديان.
ماذا يقول السياسيون والمسؤولون الأمريكيون عن الركود؟
يرى جيروم باول، رئيس مجلس المحافظين للنظام الاحتياطي الفدرالي، وجانيت يلين، وزيرة الخزانة، أن التضخم سيكون "مؤقتاً" لكن لفترة طويلة، متقبلين حقيقة الركود. لكنهما حريصان في الوقت نفسه على الترويج لفكرة إمكانية تهدئة الاقتصاد دون دفعه إلى الاتجاه المعاكس، فيما يُعرف بـ"الهبوط اللطيف".
يمكن اعتبار ذلك مجرد تلاعب بالألفاظ، وستكون له عواقب سياسية واسعة النطاق. يوم الأربعاء، 27 يوليو/تموز، رفع الفيدرالي أسعار الفائدة مجدداً، وسُئل باول مجدداً عما إذا كانت الولايات المتحدة تشهد ركوداً أو تتجه نحو ركود اقتصادي. قال باول إنه لا يعتقد بأن الولايات المتحدة في حالة ركود، لكنه يتوقع أن يؤدي رفع أسعار الفائدة إلى تباطؤ اقتصادي وإضعاف سوق العمل. وهذا بكل تأكيد سيبدو ركوداً بالنسبة للكثيرين.
هل هذا وضع اقتصادي غير مسبوق بالنسبة لأمريكا؟
نعم، فقد أدت جائحة كوفيد إلى اضطراب الاقتصاد العالمي بطريقة لم يسبق لها مثيل. ويقول الخبر للغارديان: مازلنا نعاني من ذلك الاضطراب؛ مثل العدوى تماماً. صار دلينا أعلى معدل تضخم منذ 40 عاماً، واندلاع حرب في مناطق مهمة في إنتاج السلع، وتراجع الأجور، وتباطؤ النمو الاقتصادي، واحتياطي فيدرالي يحرص على تقليص المعروض النقدي بقوة بعد سنوات من أسعار الفائدة المنخفضة. في الوقت نفسه، نرى سوق العمل جيداً ولا بأس في الإنفاق الاستهلاكي، المحرك الأكبر للاقتصاد.
وأطلق الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، بول كروغمان، على ذلك "اقتصاد الهراء"، فالأرقام بالنسبة له "غير منطقية". وقال: "قد نحتاج إلى الدخول في حالة ركود حقيقي حتى ندرك ما الذي يحدث حقاً".