قالت صحيفة The Guardian البريطانية، في تقرير نشرته الإثنين 1 أغسطس/آب 2022، إن النظام الذي صنعه الاحتلال في الضفة وقطاع غزة، والخاص بإصدار التصاريح للفلسطينيين بالعمل، ويتحكم في الأراضي الفلسطينية، يتعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم أرقاماً وليسوا أشخاصاً.
فهذا النظام مترامي الأطراف الخاص بالحكومة العسكرية التي صنعها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، يمثل عالماً يدركه لأول مرةٍ كثير من الإسرائيليين، وذلك بعد نشر شهادات من جنود سابقين يفضحون "نظام التصاريح" الذي يُحكَم به الفلسطينيون وأرضهم.
احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية
صحيحٌ أن احتلال الأراضي الفلسطينية منذ 55 عاماً ربما يعد الصراع الأكثر توثيقاً في التاريخ المعاصر، ولكن لا يُعرف إلا القليل عن اتساع وعمق النفوذ البيروقراطي الذي تمارسه الهيئات العسكرية الإسرائيلية.
فعندما ذهب جويل كرمل لأداء خدمته العسكرية في الجيش الإسرائيلي، لم يتوقع أن يعني هذا جلوسه أمام حاسوب لمعالجة التصاريح وكتابة أرقام بطاقات الهوية الخاصة بالفلسطينيين طوال اليوم.
قال كرمل، البالغ من العمر 29 عاماً: "قبل ذهابي إلى الجيش كنت أُعرَّف بأنني يميني. علمت الكثير عن الاحتلال والجانب القتالي من الأمور. لكن الأمر كان مملاً للغاية، وبيروقراطياً للغاية… إنه منهك".
أضاف: "لا يكون لديك الوقت لتفكر في الفلسطينيين باعتبارهم أشخاصاً. إنهم مجرد أرقام في شاشة حاسوب، وتضغط بالموافقة أو الرفض على طلباتهم الخاصة بتصاريح السفر".
وحدة التصاريح لدى الاحتلال
تهتم الوحدة التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، والتي تُعرف بـ"وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق (كوجات)"، بدرجة كبيرة بإصدار ومعالجة الأوراق والوثائق: بدءاً من الموافقة على التصاريح الطبية وتصاريح العمل من أجل دخول إسرائيل أو السفر إلى الخارج، ومروراً بالتحكم في تدفق الواردات والصادرات، ووصولاً إلى تخطيط البنية التحتية وتخصيص الموارد الطبيعية.
نادراً ما خضعت أنشطة كوجات لدراسة معمقة، فضلاً عن أنها لا تخضع لآليات التحقيق المستقلة. بجانب الاستخدام المباشر للعنف، يقول الفلسطينيون والجنود السابقون إن الهيئة العسكرية الحاكمة تعد جزءاً لا يتجزأ من نظام قمعي.
قال كرمل، الذي خدم في البداية بمكتب التنسيق العسكري الإسرائيلي-الفلسطيني في غزة، ثم بمدينة جنين المضطربة شمال الضفة الغربية: "قيل لنا في التدريب إن كل شيء نفعله للفلسطينيين هو في الأساس تكرُّمٌ وتفضلٌ. لم نطرح أسئلة حول الصورة الأكبر، مثل سبب عدم وجود مستشفيات لائقة في الأراضي، حتى لا يضطر الأشخاص للسفر".
أوضح: "ينفذ الجيش غارة على منزلك في الثانية صباحاً، ثم لا يزال عليك الوقوف في الثامنة صباحاً في طابور لساعات من أجل الحصول على تصريح لأبسط الأمور الإدارية. أعتقد أن ذلك شيء لا يدركه كثير من الإسرائيليين. إنه ليس العصا والجزرة، بل إنه العصا والعصا. إنه الشيء نفسه".
شهادات مروعة لجنود إسرائيليين
الشهادات الخاصة بجنود الجيش الذين خدموا في كوجات خلال العقد الماضي، جُمعت لأول مرة عن طريق منظمة كسر الصمت أو شوفريم شتيكاه، وهي منظمة إسرائيلية غير حكومية أسسها قدامى المحاربين في جيش الدفاع الإسرائيلي، والتي منحت على مدى نحو 20 عاماً، الجنود المُسرَّحين فرصة لاستذكار تجاربهم بصورة موثوقة، وإمداد الشعب الإسرائيلي بفهم مجرد للقسر والإكراه الذي ينطوي عليه الاحتلال.
جُمعت الروايات التي جرى التحقق منها والخاصة بعشرات الجنود الذين أجريت معهم المقابلات -ومن ضمنهم كرمل الذي يعمل الآن لدى المنظمة- في كتيب جديد مجاني بعنوان "حكم الجيش" (Military Rule). ويرفق مع الكتاب شهادات من سكان قطاع غزة المحاصر جمعها مركز مسلك للدفاع عن حرية حركة الفلسطينيين.
خلال تجميع أركان المشروع، وجد المحاورون في منظمة كسر الصمت أن هناك موضوعاً متكرراً بدأ في الظهور: وهو استخدام العقاب الجماعي، مثل إلغاء تصاريح السفر للعائلة كلها، والشبكة الواسعة من العملاء الفلسطينيين الذين يتعاونون مع الإدارة المدنية في كوجات، التي تحكم أجزاء من الضفة الغربية، والنفوذ الكبير الذي تتمتع به حركة الاستيطان الإسرائيلية غير القانونية على عملية صنع القرار الخاصة بالإدارة المدنية في كوجات، والعقبات التعسفية التي لا أساس لها والتي توضع أمام السماح بدخول البضائع إلى غزة أو الخروج منها.
سيطرة الاحتلال كانت هائلة
قال رجل يبلغ من العمر 25 عاماً، خدم في المقار الرئيسية لكوجات بالقرب من مستوطنة بيت إيل شمال رام الله بين عامي 2020 و2021: "مستوى نفوذنا وسيطرتنا كان مذهلاً".
أضاف: "اكتشفت أنني مسؤول عن الموافقة على تصاريح السلاح الخاصة بقوات الأمن الفلسطينية، وهي أحد التفاصيل التي لا تفكر بالفعل فيها إلى أن تكون كومة المعاملات الورقية أمامك. إن الإدراكات الصغيرة مثل هذه، بصفة يومية، هي التي تجعلك تدرك حقاً نطاق الاحتلال".
كذلك فقد قال: "ولدينا قدرة على الدخول إلى كثير من المعلومات. لم أعرف مدى عمق واتساع نطاق جمع البيانات. أحياناً كنت أشعر بالملل فأكتب أرقام هويات عشوائية لفلسطينيين لأرى ما يظهر أمامي. كنت قادراً على رؤية كل شيء عن حياتهم: عائلاتهم، تفاصيل السفر، وأحياناً أرباب العمل. أذكر ذات مرة عندما سحب قائدي الشاشة ليريني ملف أحد كبار المسؤولين الفلسطينيين، من أجل التسلية وحسب. كان ذلك مذهلاً".
جزء من نظام الرقابة
كان أحد الموضوعات الشائعة الأخرى في الشهادات هو عواقب الاستسلام ذاتياً إلى القوات المسلحة، حتى في الأطر البيروقراطية.
قالت امرأة تبلغ من العمر 24 عاماً، خدمت في المقار الرئيسية لكوجات بين عامي 2017 و2018: "ذهبت إلى الجيش وكنت أقول: (سوف أؤدي خدمتي وأساعد على تغيير الأمور إلى الأفضل من الداخل). ولكن بعد مدة وجيزة صرت جزءاً من النظام".
أضافت: "أحياناً كان لدي الخيار بأن أنهي الخدمة مبكراً في نهاية الأسبوع، ولم يكن قائدي سيمانع إن فعلت ذلك. أو يمكنني البقاء حتى الخامسة مساء ومواصلة مساعدة الفلسطينيين الذين ينتظرون إعطائي أوراقهم. كانت رغباتي تتعارض مع احتياجاتهم. لا يمكنني تحديد سبب أو توقيت تغير سلوكي، لكنه تغير".
تابعت: "إنك تفعل ما يُطلب منك في الجيش، لكنك لا ترى إلا قطعاً صغيرة من الصورة كلها. استغرق الأمر رحلة كبيرة حتى أدرك ما فعلته خلال خدمتي في الجيش وما كان ذلك يعنيه".