من المعروف اليوم أنّ إيران هي منبع ومركز التشيُّع حول العالم؛ لكن قد يكون من المستغرب لدى الكثير من الناس، معرفة حقيقة أن جمهورية إيران لم تكن معقلاً للشيعة طوال تاريخها، فمنذ دخولها الإسلام اعتنق أهلها المذهب السُّني، وكانت مثل غيرها من دول العالم الإسلامي.
بقي هذا الحال طوال 800 عام في إيران حتى حدث تحول محوري في تاريخها، وفي التاريخ الإسلامي ككل، عندما أعلنت تشيعها وإقصاء المذهب السُّني في البلاد، نتيجة عدة عوامل سياسية وتاريخية، بقيت آثارها حتى يومنا هذا.
إيران السنية.. منذ الفتح الإسلامي
تعتبر إيران التي تقع غرب آسيا موطناً لواحدة من أقدم وأعرق الحضارات في العالم، حكمها سلالات من الفرس وغيرهم، الذين فرضوا هيمنتهم وكان لهم وزنهم في إيران وما حولها من البلدان، إلى أن بدأت فارس وما حولها بالسقوط على يد المسلمين، منذ بداية زمن خلافة عمر بن الخطاب عام 634م.
وجَّه عمر جيوشه صوب بلاد الفرس في العراق وإيران وما حولها، في الوقت الذي كانت فيها بلادهم تمر بأزمات وانشقاقات كثيرة داخل الإمبراطورية الساسانية التي كان آخر ملوكها يزدجرد الثالث، وقد دارت العديد من المعارك بين جيش المسلمين والفرس لعل أبرزها معركة القادسية عام 637م، وهي واحدة من المعارك الحاسمة في التاريخ الإسلامي، تحت قيادة سعد بن أبي وقاص، بالإضافة إلى معركة نهاوند عام 642م.
وعلى أثر هذه المعارك، أصبحت العراق إمارة إسلامية أولاها العرب اهتماماً كبيراً فيما بعد، وبدأ فتح مدن فارس واحدة تلو الأخرى، كما انحسرت الديانة المجوسيَّة في بِلاد إيران وأقبل الفُرس على اعتناق الإسلام، لتصبح كاملة في يد المسلمين، وينتهي معها تاريخ طويل من الهيمنة الفارسية في المنطقة، ويبدأ عصر القوة العربية الإسلامية على أنقاض الفرس والروم.
انتشر الإسلام في إيران بسرعة، واعتنق أهلها المذهب السني، في الوقت الذي بدأ يتشيع فيه العديد من أهل العراق، وقد بدأت الحضارة الإسلامية تندمج مع الإيرانية في العصر الأموي، وازدهرت حضارة الإسلام في بلاد الفرس خلال العصر العباسي، ولكن في المقابل، حافظ الكثير من الفرس على لغتهم وقوميتهم بل ودينهم، وحاولوا التمرد على الحكم العربي، زمن الدولة الأموية.
لم يكن انتقاماً لآل البيت.. الفرس يطيحون بحكم بني أمية
كان العنصر العربي هو المسيطر بشكل تام في جميع المراكز الحساسة في الدولة الأموية، وأصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في ربوع دولة بني أمية، وقد بقي الحال على ما هو عليه إلى أن ثار العباسيون على الحكم الأموي، بمساعدة ودعم العنصر الفارسي. ولم تكن حادثة مقتل علي بن أبي طالب والخلافات الدائرة بين الأمويين ونسله سبباً في هذا الدعم الفارسي.
فقد أسهم الفارسي الطموح أبو مسلم الخراساني في نجاح الدعوة العباسية التي انطلقت من خراسان (شمال غرب أفغانستان وأجزاء من جنوب تركمانستان، إضافة لمقاطعة خراسان الحالية في إيران)، ثم تمخضت عنها الخلافة العباسية لاحقاً، والتي قامت بعد أن هزمت دولة الأمويين عام 750م.
مع العلم أن هناك روايات تاريخية مختلفة حول أصل أبي مسلم الخراساني، حيث قيل إنه كان سليلاً لأكاسرة الفرس، وأراد الانتقام من العرب الذين أنهوا حكم عائلته في القادسية، وقيل أيضاً إنه كان عبداً عند أحد هؤلاء الأكاسرة.
أصبح للفرس مكانتهم البارزة والخاصة في بلاط العباسيين، فحصلوا على المناصب الكبيرة، وأصبح الساسةُ الفُرس من كبار الساسة في الدولة العباسيّة المترامية الأطراف، وأسهموا في بناء الدولة، وظلت بلادهم تابعة للخلافة العباسية، حتى في زمن ضعف الدولة العباسية وبداية الفرس في الاستقلال بحكمهم، وقد ظهرت عدة دول في إيران، لكنّ أياً منها لم تخلع الولاء للخليفة العباسي، أو حتى تفكر في تغيير مذهبها الديني.. إلى أن ظهرت الدولة الصفوية.
التمهيد للدخول للمذهب الشيعي
ارتبطت قصة ظهور الصفوية مع موجة التصوف التي انتشرت في أراضي إيران وما حولها، عقب الغزو المغولي لها قبل التوجه إلى عاصمة الخلافة العباسية في بغداد في القرن الثالث عشر ميلادياً، وكان عنوان هذا التصوف الشافعي حب آل بيت الرسول وابن عمه وزوج ابنته علي بن أبي طالب.
وكان من أبرز روادها في تلك الفترة الشيخ صفي الدين إسحاق الأردبيلي، الذي أرجع بعض المؤرخين نسبه إلى الإمام موسى الكاظم، في حين يشكك البعض الآخر في هذا النسب، الذي أسهم في نشر الطرق الصوفية، ليحولها لاحقاً إلى طرق صفوية، تميل إلى التشيع، في الوقت الذي كانت فيه المناحرات السياسية تملأ الساحة الإسلامية في كافة مناطقها، وقد كان صفي الدين يريد أن يحصل على مكاسب سياسية من ورائها.
تطورت الطريقة الصفوية وتحولت من فكرة الوعظ إلى فكرة الجهاد والتشيع على يد الجنيد، أحد أحفاد صفي الدين، في منتصف القرن الخامس عشر، وكثر أتباعها حتى أصبحت قوة سياسية نافذة في مناطق مختلفة من إيران وشرقي الأناضول، وباتت قريبة من أن تصبح دولة.
قبل ظهور الدولة الصفوية، ظهرت دولة قوية في المنطقة أسهمت بشكل كبير في صعود الصفويين إلى الواجهة، ليحدثوا تغييراً في شكل العالم الإسلامي، هذه الدولة كان اسمها الدولة التيمورية، نسبة إلى وريث جنكيز خان المغولي القائد المسلم القوي تيمورلنك، الذي استمرت دولته منذ عام 1405م حتى عام 1500م.
وقد أسس الإمبراطورية التيمورية في العراق وأفغانستان الحديثة وإيران وهضبة الأناضول وأجزاء من آسيا الوسطى وما حولها.
وبينما كانت شوكة الدولة التيمورية تضعف في وسط صراع وفوضى داخل إيران بين المتنازعين على الحكم من التركمان النازحين في مناطق أذربيجان وشمال العراق وديار بكر والأناضول؛ بزغ نجم الأسرة الصفوية الكبيرة التي تحظى بشعبية وانتشار كبيرين -بالشمال في أردبيل بأذربيجان تحديداً- والتي استغلت هذا الصراع لصالحها.
إيران الشيعية.. تحوُّل ديني مذهبي من أجل السيطرة
كان الوريث للجد الأكبر صفي الدين، الصبي إسماعيل الأول الصفوي الذي تجهز ومريدوه جيداً للحظة السيطرة على البلاد، معتمداً في ذلك على عاملين، أولهما التغيير الأيديولوجي الديني الذي بدأه جده منذ سنوات طويلة، وثانيهما هو تحول أتباع أسرتهم ومذهبهم الصفوي الشيعي إلى جنود مقاتلين يدافعون عن عقيدتهم، التي تميزهم عن جيرانهم من أهل السنَّة، فكانوا على أهبة الاستعداد لمواجهة أعدائهم سواء في الدولة العثمانية الشابة القوية، أو في دولة المماليك في مصر، أو في أي من الإمارات الإسلامية حولهم.
استغل إسماعيل الأول فترة حكم السلطان العثماني بايزيد الثاني، التي اتسمت بالهدوء وعدم ميله للحروب، ونجح في عام 1501م في أن يؤسس الدولة الصفوية، ليصبح إسماعيل أول شاه في إيران، معلناً أن دين الدولة سيكون الإسلام على المذهب الشيعي، الذي كان آنذاك غريباً تماماً على أغلبية الثقافة الإيرانية، لذلك أخمد بقوة جنوده ثورة أهالي تبريز عاصمة دولته الذين رفضوا في بادئ الأمر هذا التحول التاريخي.
ولترسيخ المذهب الشيعي، شن الصفويون حملة قوية كي يعتنق السُّنة، الذين كانوا غالبية آنذاك، المذهب الشيعي، تارة بالإقناع وتارة بحد السيف، وكان يواجه علماء السُّنة خطر المغادرة أو القتل والتعذيب، وتم استبدالهم بعلماء من المناطق الشيعية من أجل نشر المذهب الشيعي الاثني عشري، بهدف خلق نخبة دينية جديدة، تحت إشراف "الصدر"، ليكون مسؤولاً عن تنظيم هذه المنظومة، وترجمة إرادته إلى واقع شرعي.
السنَّة يتحولون إلى الشيعة بالعنف والقوة
أقحم إسماعيل شاه العالم الإسلامي آنذاك في صراع مذهبي بين السنة والشيعة لخدمة أطماعه التوسعية والسياسية، وبدأ سياسة التحريض ونبش تاريخ الخلافة الإسلامية الذي مضى منذ قرون، وتوجه بجيشه إلى المدن إيرانية وما حولها، ثم توجه نحو بغداد عاصمة الخلافة العباسي في الماضي، وقتل الكثير من أهل السنَّة فيها وفرض على أهلها المذهب الشيعي عام 1508، ونجم عن هذه الجرائم مقتل الآلاف.
وتذكر بعض الكتب التاريخية أنه عند دخوله بغداد، أمر بفتح قبر الإمام "أبي حنيفة" وإخراج عظامه وحرقها ثم نثر رمادها ثم هدم تربته وحرقها.
باتت المواجهة مع الدولة العثمانية مسألة وقت، بعد تولي السلطان سليم الأول زمام الحكم بعد وفاة والده بايزيد الثاني عام 1512م؛ إذ التقى الجيش العثماني والصفوي في صحراء جالديران بشرقي الأناضول في عام 1514م، وهي المعركة التي انتهت بهزيمة إسماعيل الصفوي، الذي فرَّ من أرض المعركة إلى أذربيجان.
ظل إسماعيل الصفوي يحاول أن يستجمع قواه ويوحد دولته من جديد، خاصة بعد وفاة السلطان سليم الأول 1520م، وحاول بعدها أن يشنَّ حرباً على العثمانيين، لكنه توفي عام 1524م، واستمر الصفويون في الحكم طيلة قرنين من الزمان، وسجل لهم التاريخ بأنهم كانوا سبب دخول العالم الإسلامي في خلاف مذهبي منذ عام 1501 حتى يومنا هذا.