عَبَد شعب المايا العديد من الآلهة التي اعتقدوا أنَّها تحرس البشر وتحافظ على استقرار النظام، بل وتتحكَّم في حياة الخلود بعد الموت، وكان بعضها مرعباً إلى حد ما؛ لكن إله شعب المايا الخفاش "كامازوتز" كان أكثرهم رعباً.
إله شعب المايا المعروف بـ"خفاش الموت"
كان كامازوتز إله الموت والليل والتضحية عند حضارة المايا، وكان يوصف بأنَّه خفاش يشبه الإنسان ويتغذى على الدم، إذ تقول الأسطورة أيضاً إنَّه مخلوق خطير يسكن الكهوف من فصيلة خفافيش الأنف الورقي.
كما يعتقد أيضاً أنه صورة مستوحاة من أنواع الخفافيش العملاقة مصاصة الدماء، التي كانت تجوب سماء منطقة أمريكا الوسطى. وكان من بين هذه الأنواع نوع عملاق منقرض من الخفافيش يُسمَّى "ديسموس دراكولا" (Desmodus draculae) يبلغ طول جناحيها قدمين تقريباً، لذا يحتمل أنَّ وجود مثل هذا النوع العملاق مصاص الدماء -الذي يميل إلى افتراس حيوانات كبيرة مثل الغزلان واللاما- أسهم في تعزيز فكرة وجود إله وحشي يشبه الخفافيش لدى حضارتي المايا والكيتشا.
بينما شهدت حضارة المايا تراجعاً سريعاً بحلول القرن الـ11 الميلادي، استمرت أسطورة إله شعب المايا الخفاش "كامازوتز" عالقة في الأذهان حتى يومنا هذا.
أصول الخفاش "كامازوتز"
وفقاً لموقع Historical Mexico، ورد ذكر إله شعب المايا الذي يشبه الخفاش لأول مرة من جانب الزابوتيكيين، وهم شعب أصلي استوطن المكسيك حوالي عام 100 ميلادياً. اعتقد شعب الزابوتيك أنَّ الخفافيش تُمثّل الموت لأنَّهم غالباً ما رأوها تخرج من الفجوات الصخرية المقدسة أو الكهوف التي اعتقدوا أنَّها بوابات للعالم السفلي.
يُحتمل أيضاً أن يكون شعب حضارة الكيتشا، التي نشأت على الأراضي المعروفة حالياً باسم جمهورية غواتيمالا، قد اعتقد في هذا إله شعب المايا الخفاش ودمجه مع إله النار الخاص بشعب الكيتشا لإنتاج صورة إله أكثر رعباً أطلقوا عليه اسم "كامازوتز"، وهو اسم لا يقل رعباً عن صورته.
يتكوَّن اسم "كامازوتز" من مقطعين، هما "كاما" و "زوتز". المقطع الأول "كاما" هو كلمة من حضارة الكيتشا تعني "الموت"، أما المقطع الثاني "زوتز" فيعني "خفاش"، أي أنَّ الترجمة الحرفية لـ "كامازوتز" هي "خفاش الموت".
كان "كامازوتز" خفاشاً كبيراً في هيئة بشرية من فصيلة خفافيش الأنف الورقي. كان يُصوَّر عادةً وهو يحمل في إحدى يديه سكين ذبح القربان وقلباً بشرياً في اليد الأخرى.
وفقاً لموقع Ancient Origins، قيل إنَّ إله شعب المايا الخفاش "كامازوتز" يخرج من الكهوف ويمسك بضحاياه من أعناقهم ويقطع رؤوسهم قبل التحليق بعيداً. ربما هذا الاعتقاد جاء من واحدة من أشهر الأساطير الواردة عن الخفاش "كامازوتز" عند شعب المايا، وهي الأسطورة المروَّعة لـ "كامازوتز والتوأمين البطلين هوناهبو وإكسبالانك".
التصويرات المرعبة للإله "كامازوتز" في أساطير حضارة المايا
وفقاً لـ"موسوعة تاريخ العالم"، يمكن العثور على إحدى أشهر أساطير شعب المايا عن إله شعب المايا الخفاش "كامازوتز" في كتاب Popol vuh، وهو كتاب مقدس يحتوي على جميع القصص الأسطورية والتاريخية لشعب المايا والكيتشا.
تقول القصة المروّعة لـ"كامازوتز والتوأمين البطلين" -وهي واحدة من القصص والأساطير الواردة في كتاب Popol vuh- إنَّ التوأمين، هوناهبو وإكسبالانك، كانا من أنصاف الآلهة وأردوا الفوز في تحدي قضاء ليلة كاملة داخل كهف إله شعب المايا.
دخل التوأمان الكهف عبر أنبوب للاختباء من الخفافيش وحمى كل منهما نفسه بالبنادق. لكن عندما اشتد سكون الليل وتوقفت الخفافيش عن تحريك أجنحتها وساد الهدوء، قرَّر هوناهبو إخراج رأسه من الأنبوب ليرى ما إذا كان الصباح قد حلَّ. لسوء الحظ، ثبُتت كارثية هذا القرار، حيث كان "كامازوتز" ينتظر تلك اللحظة في صمت.
بالفعل، انقض "كامازوتز" على رأس هوناهبو وقطعها في لمح البصر، ثم حمل الرأس إلى العالم السفلي لكي تستخدمها بقية الآلهة ككرة في الألاعيب التالية.
يأتي ذكر إله شعب المايا الخفاش "كامازوتز" مُجدَّداً في كتاب Popol vuh عندما يشرح بالتفصيل قصة معرفة البشرية كيفية إشعال النار. تقول الأسطورة إنَّ مخلوقاً يشبه الخفافيش -يعتقد خبراء أنَّه "كامازوتز"- عمل مرسالاً بين العالم السفلي والقبائل البشرية الأولى. طلب الإله توهيل، الإله الراعي الحامي لشعب الكيتشا، من هذا "الخفاش" التوسط لدى العالم السفلي لإبرام صفقة مع البشر الذين يريدون إشعال النار. عرض البشر الأوائل على "كامازوتز" التضحية بآباطهم وخصرهم مقابل معرفة كيفية إشعال النار- قيل إنَّ هذه كانت بداية طقوس التضحية البشرية.
كيف استمرت أسطورة "كامازوتز" حتى يومنا هذا؟
على الرغم من أنَّ الخفافيش لا تزال تملأ سماء المكسيك وأمريكا الوسطى حتى يومنا هذا، لكن أنواع الخفافيش الشائعة الآن ليس لها علاقة بتلك التي كانت موجودة وقت حضارة المايا.
انقرض نوع الخفافيش العملاقة المعروف بـ"ديسموس دراكولا" في أوائل القرن الـ19. كان طول جناحيه يبلغ 20 بوصة ويتغذَّى على دماء حيوانات مثل الغزلان واللاما.
وعلى الرغم من انقراض مثل هذه الخفافيش العملاقة منذ مئات السنين، استمرَّت مشاهدات غريبة لمخلوقات ضخمة تشبه الخفافيش حتى القرن الـ20. في خمسينيات القرن الماضي، أبلغ زوجان من البرازيل عن رؤية مخلوقين كبيرين يشبهان الإنسان يحلّقان فوق شجرة في إحدى الليالي. لم تعر السلطات البرازيلية اهتماماً لهذا البلاغ، وأصرَّت على أنَّ ما شاهده الزوجان كان مجرَّد طيور كبيرة الحجم.
ومع ذلك، استمرت مثل هذه المشاهدات. في عام 1976، لمحت فتاتان مخلوقاً كبير الحجم يشبه الطيور ووصفت الفتاتان وجهه بأنَّه "يشبه وجه الغوريلا". سُجّلت مشاهدات أخرى لهذا الطائر أو الخفاش ذي وجه الغوريلا في أقصى الشمال باتجاه تكساس، حيث زعم العديد من المزارعين رؤيتهم له في حقولهم.
مع وجود العديد من المشاهدات المُسجَّلة، يصعب استبعاد وجود نوع ما من الخفافيش الشبيهة بالإنسان تجوب السماء لترصد الماشية وتأكلها. قد تكون سلالة خفاش الموت "كامازوتز" أو حتى "كامازوتز" نفسه، كما ورد في موقع All That's Interesting الأمريكي.
حضارة المايا العظيمة التي انهارت بعد آلاف السنين
كان شعب المايا ضمن أولى الشعوب التي شيدت المدن، واستخدموا علم النجوم لتحسين مستوى إنتاج المحاصيل الزراعية، واخترعوا التقويمات، واستخدموا الرياضيات المتقدمة.
لكن رغم كل تقدمهم هذا، ربما تكون إمبراطورية المايا التي تأسست على مدار آلاف السنين قد انهارت فقط في بضع مئات من السنين.
لدى العلماء عدة نظريات حول كيفية حدوث انهيار حضارة المايا، بما في ذلك اجتثاث الغابات، والاكتظاظ السكاني والجفاف القاحل. وتُركز دراسة حديثة نُشرت يوم الخميس 2 أغسطس/آب، على الجفاف، وتتحدث للمرة الأولى عن مدى شدته.
الجفاف الكبير
وجد العلماء، أثناء تحليل الرواسب تحت بحيرة تشيشانكاناب في شبه جزيرة يوكاتان، انخفاضاً بنسبة 50% في الهطول السنوي على مدى أكثر من 100 عام، بداية من عام 800 بعد الميلاد وحتى عام 1000. وتشير الدراسة إلى أنَّ الانخفاض كانت ترتفع نسبته لتصل أحياناً إلى 70%، حسب الصحيفة الأمريكية.
كان الجفاف يُعرَّف سابقاً باعتباره أحد الأسباب المرجحة لانهيار حضارة المايا، لكن هذه الدراسة هي الأولى التي تحدد كمية سقوط الأمطار والرطوبة النسبية والتبخر آنذاك. وهي أيضاً الأولى من نوعها التي تجمع بين التحليل العنصري والنمذجة لتحديد سجل المعلومات المناخية أثناء زوال حضارة المايا.
قال ماثيو لاشنيت، أستاذ علوم الأرض بجامعة نيفادا في ولاية لاس فيغاس، الذي لم يشارك في الدارسة، إنَّ القياس الكمي للجفاف مهمٌ، لأنه يوضح قوة التقلبات المناخية الطبيعية على حدة.
ويضيف لاشنيت: "البشر يؤثرون على المناخ. نحن نجعله (المناخ) أكثر دفئاً وهو عُرضة لأن يصبح أكثر جفافاً في أمريكا الوسطى، قد ينتهي بنا الأمر إلى ضربة مزدوجة من الجفاف. إذا زامنت التجفيف من جراء الأسباب الطبيعية مع التجفيف من الأسباب البشرية، فإنَّ ذلك يزيد من قوة هذا الجفاف".
قلب التربة أو كبسولة زمنية جيولوجية
حللت الدراسة الحديثة قلب التربة التي ترسَّبت على مدار السنين، وهو شيء يفعله علماء المناخ عادةً لتحديد الظروف المناخية في الماضي، مستخدمين وحلاً من العصر القديم فيما يشبه كبسولة زمنية جيولوجية.
وتحتوي كل طبقة من الرواسب المدفونة في عمق الأرض دليلاً على سقوط المطر، والحرارة، وحتى على تلوث الهواء. وعن طريق عمليات وتفاعلات كيميائية يجري "تسجيل" الظروف المناخية على سطح التربة في وقت ما، ثم يتعرض ذلك السطح للدفن في نهاية المطاف. ويمكن للعلماء الحفر لعمقٍ كبيرٍ في التربة للحصول على عينة من قلبها، ثم يحللون بعناية تلك العينة طبقة تلو الأخرى، وسنة بعد أخرى لإعادة وضع تسلسل زمني.
تراجع منسوب البحيرة في فترات الجفاف
ولإعداد هذه الدراسة، فحص العلماء بعناءٍ طبقات الوحل والطين في العينات التي جلبوها من قلب التربة أسفل بحيرة تشيشانكاناب. وقال نيك إيفانز، وهو طالب دراسات عليا يدرس علم المناخات القديمة بجامعة كامبريدج، والباحث الرئيسي في الدراسة، إنَّه أثناء فترات الجفاف، كان منسوب البحيرة يتراجع. ومع تبخر المياه، تتبخر الجزئيات الخفيفة أولاً تاركة خلفها العناصر الثقيلة.
وتشكَّلت بلورات جبسية تحتوي على مياه أحفورية
وفي حال كان الجفاف شديداً وممتداً لفترة طويلة، تتشكل بلورات جبسية وتَدمج مياه البحيرة الموجودة مباشرةً في تكوينها. وسمحت "المياه الأحفورية" الموجودة داخل البلورات لإيفانز والعلماء الآخرين المشاركين في الدراسة، بتحليل خصائص مياه البحيرة أثناء تلك الفترة، وقال إيفانز: "الأمر أقرب ما يكون إلى أخذ عينات من المياه في الماضي".
وحدّدت التركيبة الكيميائية للمياه الأحفورية فترات الجفاف أثناء حقبة حضارة المايا، وكشفت كذلك كم من الوقت استمرّ ذلك الجفاف، ومقدار شدته.
إذن، ما أسباب الجفاف الكبير؟
يوجد العديد من النظريات بشأن مسببات الجفاف، لكن أياً منها لم يصل إلى نتائج حاسمة بعد مضي نحو ألف عام. يتزامن الجفاف مع الحقبة القروسطية الدافئة (الفترة التي سبقت العصر الجليدي الصغير)، ويُعتقد أنَّه حدث نتيجة انخفاض نسبة الرماد البركاني في الغلاف الجوي، وزيادة في النشاط الشمسي، حسب The Washington Post الأمريكية.
وأظهرت دراسات سابقة، أنَّ اجتثاث الغابات أثناء حضارة المايا قد يكون أيضاً ساهم في الأمر. وتميل عملية اجتثاث الغابات إلى خفض كمية الرطوبة وإحداث خلل بتوازن التربة. وقال إيفانز إنَّ نظريات إضافية حول أسباب الجفاف تتضمن التغيرات في حركة دوران الغلاف الجوي وتراجع تواتر الأعاصير المدارية.
يأمل إيفانز وفريقه في أن تساعد دراستهم علماء الآثار في فهم كيف قد يكون الجفاف في العصر القديم أثَّر على الزراعة أثناء حضارة المايا في وقت حرج في تاريخ شعبها.قد يهمك أيضاً: البحث عن إمبراطورية المايا المفقودة.. كل ما تريد معرفته عن الحضارة الغامضة