لا شك أن الهجرة النبوية حدثٌ بالغ الأهمية، فلم تكن انعكاساتها على الجزيرة العربية فقط، بل فتحت الباب أمام خروج الإسلام إلى العالم أجمع، فانطلق ركبُ واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية، إن لم تكن أعظمها في ميادين العدل والقسط والعلوم، ومن تأسيس النواة الأولى في المدينة المنورة، ومن ثم وصول جحافل الجيوش الإسلامية إلى قلب بلاد الغال غرباً، وتخوم الصين شرقاً. كانت الهجرة اللبنة الأولى لكل ذلك وأكثر، فالهجرة كما يصفها مؤرخون حدثٌ غيَّر مجرى التاريخ، وقد جعلها البعض الحد الفاصل بين العصور المظلمة والعصر الذهبي الذي تلاها، في سياق إعادة تقسيم المراحل التاريخيّة بما يتناسب مع تاريخ الإسلام ودوله المتعاقبة.
وعلى الرغم من أن حدث الهجرة لم يجرِ في شهر ذي الحجة إلا أن نهاية العام الهجري، فرصة تُعيد إلى الأذهان حادثة الهجرة، ولا أدل على أهميتها من اتخاذ المسلمين لها ميقاتاً لحياتهم، على أثر تشاور الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الصحابة، واستقر الرأي على التأريخ بالهجرة، لكونها ميلاد دولة الإسلام.
وفي سياق هذا الحدث، أقدم في هذا المقال مجموعةً من المقولات والعبارات لعددٍ من كبار المفكرين والعلماء حول الهجرة النبوية، لبيان جملةٍ من معانيها، وتسليطاً للضوء على جوانب مختلفة منها، وتأكيداً على مركزيتها. ولا أدل على ذلك إلا ما قاله أديب الفقهاء، الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى، حول ما يمكن للمسلم الاستفادة منه من الهجرة، فقد أورد في كتابه "رجال من التاريخ":
"أنا من ثلاثين سنة أكتب وأخطب في الهجرة، ما انقطعت عن ذلك سنة، ولا أزال مع ذلك كلما فكرت فيها، بدت لي في أخبارها ملاحظاتٌ وعِبر، لم تكن قد بدت لي من قبل، ونظرت إليها من جوانب جديدة، فرأيت قديمها جديداً، فهي كالنبع الذي لا يزداد على الاستسقاء إلَّا غزارة وعذوبة وصفاء".
وحول أثر الهجرة على العالم، وكيف تطورت المراكز الحضارية الإسلامية انطلاقاً من حدث الهجرة، وصولاً إلى الإشعاع الحضاري الإسلامي الذي استقت منه أوروبا جزءاً غير يسير من "مدنيتها" الحديثة، يقول الطنطاوي في كتابه "سيد رجال التاريخ": "إنه لولا الهجرة لم تكن المدينة، ولولا المدينة لم تكن دمشق، ولولا دمشق لم تكن بغداد ولا قرطبة، ولولا قرطبة وطليطلة لم تكن باريس ولا لندن ولا نيويورك، فلو أنصف المتمدنون لجاؤوا يحتفلون معنا بذكرى الهجرة".
وفي معنى قريب يقول الدكتور مصطفى السباعي في كتابه "هكذا علمتني الحياة"، في تجليات حول الحدث المهم: "لولا الهجرة لما كانت دمشق وبغداد، وقرطبة والزهراء، ولولا الهجرة لما كان خلود العرب في التاريخ، ولولا الهجرة لما استيقظ الغرب بعد سباتٍ عميق".
وبحسب السباعي، فقد تفطن الصحابة إلى أهمية الحدث مبكراً، وما حمله من معاني الكفاح والفداء والتضحية، فيقول في الكتاب نفسه: "الهجرة النبوية جمعت بين روعة الكفاح والفداء واللقاء، وعظيم الأثر في تحويل مجرى التاريخ، لا جرم أن كان عمر والصحابة بعيدي نظر، حين اعتبروا الهجرة بدء التاريخ الإسلامي".
وفي سياق الحديث عن الهجرة، بصفتها حلقة أساسية أسهمت في انتقال الإسلام ومن ثم البشرية من مرحلة إلى أخرى، ما ذكره المؤرخ د. عماد الدين خليل في كتابه "دراسة في السيرة"، إذ يورد بأن الهجرة سمحت للإسلام بأن ينتقل من دائرة الإنسان إلى دائرة الدولة، فيقول: "استغرق هيكل الهجرة زمناً طويلاً… إن الإسلام جاء لكي يُعبّر عن وجوده في عالمنا من خلال دوائر ثلاث، يتداخل بعضها في بعض، وتتسع صوب الخارج لكي تشمل مزيداً من المساحات: دائرة الإنسان، فالدولة، فالحضارة. ولقد اجتاز الإسلام في مكة دائرة الإنسان، ثم ما لبثت العوائق السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية أن صدته عن المضي في الطريق صوب الدائرة الثانية، حيث الدولة، لأنه بلا دولة ستظل دائرة الإنسان، التي هي أشبه بنواة لا يحميها جدار، ستظل مفتوحة على الخارج بكل أثقاله وضغوطه وإمكاناته المادية والروحية، ولن يستطيع الإنسان، الفرد أو الجماعة، التي لا تحميها دولة، أن تمارس مهمتها حتى النهاية"، فكانت الهجرة صلة الوصل إلى الدولة، ومن ثم مهدت الطريق إلى الدائرة الثالثة، إلى الحضارة.
ومن الدروس التي علمها لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، ما ذكره العلامة أبو الحسن علي الحسيني الندوي في كتابه "السيرة النبوية": "وقد أثبتت الهجرة النبوية أن الدعوة والعقيدة، يُتنازل لهما عن كل حبيب وعزيز، وأليفٍ وأنيس، وعن كل ما جبلت الطبائع السليمة على حبّه وإيثاره، والتمسك به والتزامه، ولا يتنازل عنهما لشيء، وقد اقترن تاريخ الدعوات العظيمة، والديانات القديمة بالحركة، حركة الأفراد أحياناً، وحركات الجماعات أحياناً كثيرة".
وحول التضحية العظيمة التي قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته معه، ما ذكره الشيخ محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة، في حديثه عن وصول الرسول صلى الله عليه وسلم، واستقراره في المدينة المنورة، وما تجشمه من مصاعب وتضحيات، وتحول الغايات العظمى إلى حقائق، بحسب ما حملوه من هموم عظيمة: "رجل العقيدة يسير طوعاً لها، ويجد طمأنينته حيث تقرّ عقيدته، وتلقى الرحب والسعة. والناس ينشدون سعادتهم فيما تعلّقت به هممهم، وجاشت به أمانيهم، وهم ينظرون إلى الدنيا وحظوظهم منها على ضوء ما رسب في نفوسهم من عواطف وأفكار".
ويتناول الدكتور علي الصلابي أهمية التخطيط في الهجرة، الذي يعد التخطيط جزءاً أساسياً من السيرة النبوية، وأنها مطلب كل مسلم في هذه الحياة، فيقول: "إنَّ مَنْ تأمَّل حادثة الهجرة، ورأى دقَّة التَّخطيط فيها، ودقَّة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدِّماتها إلى ما جرى بعدها؛ يدرك أنَّ التَّخطيط المسدَّد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأنَّ التَّخطيط جزءٌ من السُّنَّة النَّبويَّة، وهو جزءٌ من التَّكليف الإلهيِّ في كل ما طولب به المسلم، وأنَّ الَّذين يميلون إلى العفوية؛ بحجة أنَّ التخطيط، وإحكام الأمور ليسا من السُّنَّة؛ أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين".
وحول أهمية الهجرة يقول المفكر الكبير، علي عزت بيجوفيتش رحمه الله: "إن الهجرة النبوية تعني لتاريخ الإسلام ما يعنيه شروق الشمس للطبيعة، لأنه –على الرغم من إسفار فجر الإسلام تلك الليلة في مكة عندما نزل الوحي- لم تُشرق الشمس بكل ضيائها إلا في المدينة. فمع الهجرة تحول الإسلام من حركة روحية محضة –حتى تلك اللحظة- إلى جماعة إسلامية، ليتحول منها إلى بدايات تكوين المجتمع والنظام والدولة". ويقول عن مكانة الهجرة في سياق السيرة العام: "والهجرة النبوية رابط بين مكة والمدينة، وهي معالم في هذه الطريق، وجبلٌ مشرف ترون منه المرحلة قبله والمرحلة بعده، اللتان معاً تكونان ما نسميه بالإسلام. لذلك تظل الهجرة المرحلة الحقيقية الأولى لعصر جديد، عصر الإسلام".
ويمكن أن نختم هذا التطواف الثري عن الهجرة النبوية ومعانيها، لقول آخر للمفكر الكبير علي عزت بيجوفيتش، يتناول بكل وضوح أن الهجرة في كل زمان لا يجب أن تكون هروباً، بل هي محطة للعودة مرة أخرى، وهو ما يمكن أن يبلسم جراح من اضطر على أثر الثورات المضادة أن يترك أهله وذويه، ويذهب إلى بلاد أخرى، فيقول بيجوفيتش: "رسالة الهجرة واضحة، إنهم يهاجرون، لا ليهربوا مثل الوحوش من الصيادين، ولكن ليستعدوا إلى العودة. هذه هي الهجرة الحقيقيّة".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.