أليس غريباً أن يسأل صحفي من هآرتس الإسرائيلية مواطناً تايوانيّاً عن مدى استعداده للاهتمام بشؤون الفلسطينيين، كما يعلن دعمه غير المحدود لإسرائيل؟! ليرد المواطن التيواني عليه أنه قد يفكر لكنه يعتقد أنه لن يفعل ذلك في الغالب، في تكملة جواب هذا المواطن، الذي يعيش في أقصى القارة الآسيوية، بعيداً عما يجري في فلسطين نكتشف السبب ليزول العجب، فالمواطن مسيحي الديانة عبَّر عن أنه يدعم إسرائيل بأمر من الله، وما دام الله لم يأمره بدعم الفلسطينيين فلن يفعل في الغالب، خاصة إن كان هذا الدعم سيكون على حساب الواجب المقدس تجاه الكيان الجديد في الأرض المقدسة، لعل ما سيقفز في أذهاننا الآن هو المثل القائل: "ملكيٌّ أكثر من الملك".
لكن الأهم هو السؤال: كيف أصبح هؤلاء الناس في أطراف آسيا صهاينة أكثر من أبناء الحلم الصهيوني أنفسهم، وما السر الذي يقف خلف الدعم الكبير الذي تقدمه الكنائس الإنجيلية والبروتستانتية في آسيا ومناطق أخرى لذلك الكيان الغاصب؟! سترجع بنا الإجابة إلى حكاية أقدم بكثير من حكاية الصهيونية نفسها، إلى تاريخ امتد في مساحات الجغرافيا مع الاستعمار والتجارة والتبشير منذ نهايات القرن السادس عشر وإلى الآن، إنها قصة الصهيونية المسيحية الحاضرة بقوة في كل مكان والفاعلة في المجال الديني والسياسي والثقافي في العالم أجمع.
بدايات التشكل
في العصور الوسطى انتشر في الفضاء العالمي اهتمام عام بنهاية الزمان، لعل ما دفع له هو ذلك الصراع المحتدم بين الغرب والشرق، والذي شكلت بؤرته الحروب الصليبية المدفوعة بحماس ديني، في قلب الاهتمام بنهاية الزمان تنامى الخلط بين الأصولية الكتابية وقرب الأزمنة الأخيرة للبشرية، وتطور تفسير مسيحي للكتاب المقدس بعهديه الصهيونية المسيحية يقتضي أن عودة اليهود إلى الأرض المقدسة ضرورية من اجل تسريع عودة المسيح، ولهذا دعا توماس برايتون عام 1585 بشكل صريح، ومن هنا صارت عودة اليهود إلى الأرض المقدسة عقيدة تخص ركيزة عقدية مهمة عند الطائفة الإنجيلية، وهي عودة المسيح، ففي القرن التاسع عشر نشر قس إنجليكاني اسمه داربي فكرة "ما قبل الألفية"، ادعى فيها أنه في نهاية الزمان سوف ينقذ الله المسيحيين من الكوارث الفاجعة المتنبأ بها، وستكون إسرائيل أداة لعقاب غير المسيحيين، ثم بدأ المسيحيون الإنجيليون استخدام نسخة الكتاب المقدس التي نشرها سكوفيلد مُذيَّلَة بتعليقاته التي تركّز على وعود ما قبل الألفية التي يجب أن تُستوفى. نمت هذه الأفكار وانتشرت في الأوساط المسيحية الإنجيلية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، فتشكل تيار الصهيونية المسيحية الذي سرى في جسد الطوائف الإنجيلية، وانتقل معها حيث حطت رحالها مقترنة بمسيرتي الاستعمار والتبشير.
نما ذلك التيار على قواعد ثلاث هي، القراءة الأصولية للكتاب المقدسة القائمة على تعضيد مفاهيم الشعب والاختيار والعودة، والتمسك بربط الشعب اليهودي بدولته الأولى قبل الميلاد، والبحث عن فعل تاريخي يؤيد ذلك المسار والذي التقى بعد ذلك مع مساعي الحركة الصهيونية في تأسيس وطن قومي لليهود والتي تحققت في النهاية في 1948م.
حرب يونيو/حزيران.. كيف تحول الإثم إلى معجزة
كانت حرب يونيو/حزيران 1967م بمثابة دفعة قوية لتيار المسيحية الصهيونية، إذ اعتبرت من قبل رموزه معجزة إلهية وخطوة أولى لتحقيق الوعد بعودة إسرائيل، وبالتالي فتحت الطريق أمام تجدد الآمال في عودة المسيح.
ومنذ ذلك الحين تلقت دولة الكيان دعماً غير محدود من المسيحية الصهيونية خاصة الأمريكية، لكن هذا كان محكوماً بعلاقة خاصة بين اليمين الصهيوني والمسيحية الصهيونية، علاقة يحكمها التحالف الحذر من الطرفين، فهما إن اتفقا في الهدف المرحلي الذي هو قيام دولة إسرائيل على كامل الأرض المقدسة يختلفان في الهدف الأخير المتعلق بإيمان كل منهما الديني.
قوة ناعمة في محيط ضائع
تشير الدراسات إلى أن تيار المسيحية الصهيونية هو الأكبر نمواً في الانتشار، وأنه يسيطر على النسبة الأكبر من الكنائس الإنجيلية حول العالم، يهتم أبناء هذا التيار بالتبشير له، ويغدقون في سبيل ذلك الوقت والجهد، وليس أنسب لدراسة ذلك من آسيا، القارة التي تعد فيها الديانة المسيحية ديانة أقلية في مقابل الإسلام والبوذية، يلاحظ التوسع الكبير والمفاجئ في عدد الكنائس التابعة للطائفة الإنجيلية في الهند وتايلاند، وبغض النظر عما إذا كانت إسرائيل داعمة لهذا الانتشار أو تحاول استغلاله لصالح دعم قضاياها في محيط ضائع منها ويمثل ظهيراً داعماً للفلسطينيين بدرجات متفاوتة، إلا أن اللافت للنظر هو تنامي تلك الظاهرة في بيئة غريبة عنها، كما تعاظم دورها رغم انحسارها نسبياً في الانتشار والعدد.
اجتياح الخمسينية.. وهج الفكرة أم تلاقي المصالح؟
في أواخر القرن التاسع عشر، وفي أوساط بروتستانتية في الولايات المتحدة الأمريكية انطلقت حركة دينية على فكرة القداسة التي تقوم على ضرورة مرور كل المسيحيين باختبار كي يصبحوا مسيحيين فعلاً، يسمى هذا الاختبار بمعمودية الروح القدس ونسبة لليوم الذي حل على الرسل الاثني عشر الروح القدس تمت تسمية تلك الحركة بالخمسينية، وقد لاقت رواجاً في أوساط الإنجيليين الأمريكيين، وفي مطلع القرن العشرين، أقدمت الشخصيات الرئيسية لتلك الحركة على التطبيع مع أشكال قريبة من اليهودية في الطقوس واللباس، ودمجت المخاوف الأخروية الموروثة من البروتستانتية في القرن التاسع عشر مع الأفكار الإسرائيلية البريطانية التي تساوي بين الأنجلوسكسونيين والقبائل المفقودة في إسرائيل، لكن في العقود اللاحقة، تم دفع هذه المفاهيم العنصرية إلى هامش الحركة، لكن الشعور الشديد بالتماهي مع إسرائيل ظل قائماً، خاصة مع حرب يونيو كما أسلفنا، ثم اتجه أتباعها نحو إحلال روابطهم الدينية والثقافية بدلاً من العرقية مع "شعب الله المختار".
وبحلول أواخر القرن العشرين تمكن المبشرون في الولايات المتحدة من نشر الخمسينية وأفكار الصهيونية المسيحية خارج أمريكا الشمالية، وتشير بعض التقديرات أن تلك الطائفة هي الأسرع نمواً حول العالم خاصة خارج العالم الغربي، في آسيا وأفريقيا، فهل يقف دعم الصهيونية خلف انتشارها السريع، أم تقف فكرتها الرائجة والمتوهجة خلف اعتبارها قوى ناعمة حليفة لإسرائيل؟
انصبَّت الأنشطة التبشيرية للخمسينية الصهيونية في النصف الثاني من القرن العشرين على شرق آسيا وجنوبها، وتركزت مؤخراً على تايلندا وإندونيسيا، حيث يزداد نشاط المسيحية الصهيونية هناك بالتعاون مع الدبلوماسية الإسرائيلية، التي تحاول التحايل على المقاطعة الإندونيسية المشددة ضد الكيان، حيث يسافر العديد من أبناء الطائفة إلى الأراضي المحتلة سنوياً، وأقيم في شرق البلاد أول معبد يهودي، ولعل المفارقة هنا تكمن في كثافة تلك النشاطات في إندونيسيا بالذات والتي تعد ظهيراً آسيوياً إسلامياً مهماً للقضية الفلسطينية وداعماً أساسياً لها، ويظهر ذلك من خلال المواقف المشرفة التي اتخذتها إندونيسيا دائماً في أحداث الصراع.
إننا، ونحن ندرس تلك الحالة نستطيع أن نرى كيف تمد إسرائيل أذرعها لتطوق العالم، وتحول كل نقطة فيه إلى مجال داعم لأسطورتها، وكيف يستفيد ذلك الكيان بكل فكرة، حتى وإن عارضت أسسه القائم عليها، وهذا يفتح أعيننا على يجب التنبه له قبل أن نجد المستقبل قد صنع في غفلة منا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.