لو كان الكاتب العالمي الجزائري، ياسمينا خضرا، غير جزائري لرأيت قومه يحتفون به أيما احتفاء، بما حققه في مشواره الطويل، مثلما يحتفي اللبنانيون بالكاتب الفرنكفوني الفذ، أمين معلوف، دونما تشابك سخيف حول لغة الكتابة بدل منطق التفكير.
لم تكن ملحمته الكتابية، البتة، سهلة، عليك أن تشقى كثيراً كي تكتب ما يربو على الأربعين رواية، تُرجمت إلى اثنتين وأربعين لغة في ثمانية وخمسين بلداً، بينها لغات محلية لشعوب محلية لا يسمع بها أحد.
كما أنه ليس متاحاً لأي كان أن تتحول بعض أعماله إلى السينما والمسرح ولأفلام الكرتون، مثلما وقع له في تجربته الشخصية الفريدة، فهو عسكري سابق، اسمه الحقيقي محمد مولسهول، لكنه فضل أن يكتب باسم مستعار، كان لزوجته ياسمينا خضرا، وكان يمكنه أن يتخلى عنه بعد تقاعده من العسكرية، بيد أنه فضل الحفاظ عليه، وأن يشتهر باسم رفيقة دربه، تكريماً لسلالة النساء.
وبكل تأكيد، فهذا الرصيد غير المسبوق، من الصعب أن يتكرر لأي كاتب جزائري أو عربي، ومع ذلك لم يشفع له في أن يجد نفسه طريداً للسحرة، بعد تصريحات وصفت بالنرجسية.
كان يمكن أن تكون تلك التصريحات الموسومة بالنرجسية مجال نقد مقبول كما فعل ثلة من الإعلاميين والأدباء والكتاب، غير أن الكثيرين سقطوا في مربع لتصفية الحسابات، إما بسبب العقدة اللغوية من الفرنسية التي يكتب بها، وإما بسبب تألقه العالمي، أو لأسباب ذهنية هي نتاج تراكمات مقولبة، جعلت أمر العداء مبرراً بمسائل الهوية والتاريخ واللغة والاختلاف في نمط التفكير.
تصادف وجودي العام 2006 بلبنان خلال تغطية حرب تموز، بلقاء مجموعة من شبان حركة الشعب، وقد فاجأني أحدهم وكان شاباً يافعاً باطلاعه الكبير على الأدب الجزائري، فحدثني عن رواية "عرس بغل" للطاهر وطاهر، ثم توقف، ذلك الشاب، طويلاً عند ياسمينا خضرا ولم يكن ذلك نابعاً من فراغ، فأنا بدوري لاحظت أنه، وفي الوقت الذي لم يكن الإعلام الجزائري يكتب عنه كلمة واحدة، بسبب الجهل بأعماله التي لم تُترجم بعد إلى العربية، عكفت أطالع عنه مقالات يومية تتناول أعماله بجريدة الأخبار اللبنانية، مع إشادات عريضة من كبار النقاد اللبنانيين.
1/ نظرية جزائرية: النجاح في الخارج يساوي المؤامرة؟
هل كان مخطئاً حينما كتب هو ذاته "الجزائر الأليمة تعظم اللئيم وتقزم العظيم"، أو لما قال "في الجزائر لا يتوهج المبدعون، بل يحترقون"؟ إذا كنتم لا تصدقون ذلك فعليكم أن تتساءلوا لماذا تألقت أحلام مستغانمي خارج بلدها؟ ولماذا تتألق فضيلة الفاروق خارج البلد؟ ثم عليكم أن تجدوا تفسيراً عقلانياً عن السبب الذي جعل نجوم الراي يبزغون خارج البلاد، وينجحون في تحويل أغانٍ جزائرية تراثية وصوفية لأيقونات عالمية ترجمت لحنياً إلى الهندية واليونانية والعبرية والإسبانية والإنجليزية، وأن يضمّن مخرجون أمريكيون عدداً من أفلامهم بأغاني خالد ومامي في إنتاجات هوليودية موجهة لأسواق العالم.
طبعاً حتى في هذه النقطة يبدو النقاش مع فئة من الجزائريين عقيماً للغاية، حين ينزلق إلى تفسيرات إيديولوجية خارقة للعقل، فثمة جزائريون متشربون بفكر الاشتراكية و"السوسيال" الذي يدفعهم، كما جرت العادة، لربط تألق الكتاب والفنانين بقوى غامضة متآمرة على اللغة والأخلاق والهوية، أي إنهم يسقطون الحالة الجزائرية، التي لا ينجح فيها كائن من كان دون دعم سياسي، أو علاقة عائلية أو وساطة، بالحالة الأوروبية والعالمية الفسيحة ذات السوق المفتوح، حيث النجاح سلعة ومنتج من نتاج السوق، يحدده عدد القراء وعدد المستمعين، بما أنها نشاطات حرة موكلة لمؤسسات خاصة مثل دور النشر الأدبي والموسيقي و الفني، وتلك المؤسسات الربحية ليست مستعدة لأن تدفع سنتاً واحداً لصناعة أي رمز، فإذا حقق الكتاب مبيعاً كبيراً، فهو باست سيلر، وإذا ما تجاوز مغنٍ عتبة تقع في الغالب ما بين 100 ألف ونصف مليون نسخة، نال جائزة الأسطوانة الذهبية وجائزة البلاتينيوم، وإذا بلغ الملايين فهو صاحب الغرامي وورلد دون فلسفة زائدة، ودون تدخل للمعارف في لجان التقييم، فلا لجنة هناك غير قانون العدد.
هكذا تتأسس وتشتغل عجلة النجاح والشهرة هنالك منذ قال آدم سميث:
"دعه يعمل، دعه يمر".
وتماماً كما مارس جزائريون احتقار الذات، بالنسبة لنجاح مطربي الراي فأوعزوه للوبي الفرنسي واليهودي، لا إلى السوق، سوق وضع الشاب خالد على رأس المبيعات في الهند الأنغلوساكسونية، مطيحاً بسيطرة مايكل جاكسون التي دامت هناك لعقود، ونصبه على رأس "الهيت باراد" في 35 بلداً في العالم، بينها السويد والدنمارك والنرويج، تعود ذات الفكرة، فكرة احتقار الذات بالنيل من أهم معلم أدبي جزائري، الأكثر مقروئية عبر العالم، وبالتالي الأكثر حضوراً في الميديا والأكثر شهرة، بتطوير عقدة مترسخة ضد اللغة الفرنسية، بصفتها لغة المستعمر، وجراء القولبة الإيديولوجية الكثيفة التي سرقت عقل أجيال كاملة، ووضعتهم في عراك بليد مع اللغة الفرنسية، تلك الأداة التي استعملها مولود فرعون وكاتب ياسين ومحمد ديب في مقارعة الاستعمار.
يبدو أن هذا الصراع الخاوي هو من دفع مؤخراً بالبروفيسور رابح لونيسي، وهو واحد من الأقلام الوطنية الملتزمة إلى دق ناقوس الخطر ضد مفاهيم خطرة التي بات يروجها تيار جزائري، هو خليط من الأفكار الثورية والبعثية المتطرفة، والاستدانة الدائمة من ريع الذاكرة، عندما كتب: "إن محاربة الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية هو في الحقيقة حيلة لمحاربة الثقافة والهوية الجزائرية الأصيلة؛ لأن هذا الأدب هو الأكثر تعبيراً عنها، خاصة في العهد الاستعماري، فلتقرأوا محمد الديب أو فرعون أو معمري أو آسيا جبار أو ياسين أو حداد مثلاً، ستجدون أنفسكم فيه بشكل جلي، فعندما تقرأ ثلاثية محمد الديب (الدار الكبيرة، الحريق، المشغل) على سبيل المثال لا الحصر ستشعر فيه بجزائريتك وتقاليد شعبنا ونفسيته ونضالاته اليومية، وبالبؤس الذي سببه الاستعمار لنا بالرغم من أنه مكتوب بالفرنسية".
2/ حملة تخوين شرسة، وجهل تام بمحتوى أعماله
لقد وضع عدد من هؤلاء استقبال السفير الفرنسي المعتمد لياسمينا خضرا في مصف " التبعية " و"الولاء" لفرنسا، وكأن راعي السفارة الفرنسية يمارس مهامه بطريقة "سرية"، أو أنه لا يندرج في إطار العلاقات الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول، أو أن وجود سفارة في بلد ما عمل عدائي يحتم على الكاتب أن يرفض دعوته، حتى يتملق الذهنية الشعبوية التي لا تفرق بين الزمن الكولونيالي وزمن شركة توتال الفرنسية المستثمرة في قطاع النفط الجزائري. وتأمل كيف أن سوء العقل أنتج لنا جيلاً يتفاخر بسوء الأدب، جراء بلاهة النخبة وسذاجة صناع الرأي.
وأما أغرب ما يمكن أن تقرأه، فهو ما كتبه الدكتور محمد الأمين بلغيث، متهماً ياسمينا خضرا – الضابط السابق في الجيش- بتحصيل الشهرة مقابل "كتابات تطهر وتجمل الاستعمار"، وهي لغة بديعة في التخوين، تذكر بتلك اللغة التي شنها ذات التيار على كاتب ياسين، عندما كتب مسرحية "محمد خذ حقيبتك"، فتم تأويلها على أنها دعوة لطرد الإسلام، عبر رمزية اسم الرسول الكريم، فيما كان العمل يتناول عنصرية اليمين الفرنسي المتطرف الذي شن حملة لطرد الجزائريين من فرنسا، برمزية اسم محمد الأكثر انتشاراً بين الجزائريين، فانظر إذن عاقبة من يترك عقله مشاعاً للآخر، لدرجة أن فئة كبيرة من ضحايا التزييف الإيديولوجي يعتبرون صاحب رائعة نجمة "خائناً" و"عميلاً" دون أن ينتبهوا إلى أنه شارك وهو مراهق في مظاهرات 8 ماي 1945 وكتب عن تلك المجازر بطريقة قد تعجز فلوبير ذاته.
والأمر المريع حقاً أن "تخوين الرجل بتطهير الاستعمار وتجميله" يكشف أمراً آخر، هو كيفية أن تقرر إعدام رجل دون عناء الاطلاع على ملف اتهامه، فتطلق شخصاً دون قراءة رواياته، ليصبح الرجل محل ظلم نتيجة الهوس بمعاداة لغة المستعمر.
لو أنهم فسروا انتشار الرجل أدبياً عبر العالم بانطلاقه من دور نشر فرنسية ناشطة وحيوية داخل مجتمع يقرأ ويكتب بغزارة، ويملك مؤسسات ترجمة قوية وفعالة، غير متاحة للكتاب باللغة العربية، لكان النقاش تقنياً وأدبياً محضاً، بيد أن ربط النجاح بمحاباة الاستعمار، فيدل على أن المتمسكين بهذا الاتهام هم ضحايا عدم الاطلاع، ففي روايته "فضل الليل على النهار" المتحولة لفيلم سينمائي أخرجه الكسندر أركادي، مسح شامل وتعيس للوضع المزري للجزائريين تحت نير الاستعمار، وهو خصص لذلك فصلاً كاملاً هو حي الصفيح "جنان جاتو" بوهران، ثم خصص فصلاً آخر يصف الحياة الناعمة للمعمرين في "ريو صالادو"- دائرة المالح، وبينهما حياة متقلبة للبطل المتوزع بين اسمه العربي يونس والفرنسي جوناص، الذي يقرر والده الذي أرهقه الفقر أن ينقذه من جحيم جنان جاتو إلى نعيم ريو صالادو، حيث يقيم عمه المتزوج من فرنسية، لكن عمه كان مناضلاً سرياً في الحركة الوطنية متأثراً بالفكر الوطني للأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر، ثم نكتشف عرضاً لمجازر 8 ماي 1945، التي ارتكبها الفرنسيون في حق الجزائريين، وكرونولوجيا الثورة وأحداثها المريعة بين الطرفين، فحوارات تتردد في الرواية تعد نسفاً صريحاً لرسالة التمدين التي تعد مبرر الاستعمار في الجزائر، فأين هي إذن عملية تجميل الاستعمار في كل هذا، إذا لم يكن القصد من ادعاء ذلك هو عملية تشويه الرجل من طرف من لا يقرأون.
ليس عيباً ألا تقرأ، لكنه من السخف والجنون والبلاهة أن تحكم على ما لم تقرأ، أو تقتطع جزءاً من فصل لتحكم على رواية تنتهي في آخر سطر، فيتم الادعاء مثلاً أنه لم يكتب مواضيع جزائرية، في إشارة إلى تلك الروايات التي وقعها مطارداً قضايا دولية تحت مسمى "أدب الراهن"، مثل الاعتداء وسنوات كابول وأجراس بغداد، وليلة الزعيم الأخيرة، والمعادلة الإفريقية. ولست أدري أين ذهبت روايات عالجت الراهن الجزائري مثل "بمَ تحلم الذئاب؟" و"السيد والحملان" و"فضل الليل على النهار"، من هذا التصنيف الذي يطرح مشكلة عدم معرفة إصدارات كاتب وجد نفسه في تقاطع النيران العدوة والصديقة.
3/ ماذا ينتظر القردة: الرواية التي استبقت نبض الحراك الجزائري
لا يعرف هؤلاء قط، أن روايته "ماذا تنتظر القردة" هي واحدة من أجرأ الروايات الجزائرية، إن لم تكن أجرأها منذ بداية الأدب في البلاد، حيث شخص فيها بدقة الوضع السياسي والاجتماعي للبلد والفساد المستشري فيه، وتسلط جيل الشرعية الثورية فيه، واستغلال النفوذ، وتطويع أجهزة الدولة خدمة للأغراض الشخصية والجنسية.
لقد كتب ذلك في 2014، فجلبت له الرواية انتقادات حادة للغاية، لا بل إنه اتهم بتشويه صورة البلاد قبل أن يصير التشويه حقيقة بعد خمس سنوات لافظاً من جنين الحراك، وطبعاً فإن عدداً كبيراً من الروائيين الجزائريين لم تكن لهم تلك الجرأة لانتقاد النظام السياسي السابق، وتشريحه في شكله القبيح والسيئ، كما فعل هو، ربما لأن قصص الحب والمطلقات والأرامل غدت أهم شأناً من مصير أمة وقعت في أيد لصوص، أو أنهم يخشون غضبة عصابة حكمت البلد كجمهورية موز تماماً.
يتضح لي أن البلد، وجراء ذهنية وعقلية عدم فهم تعيسة، هي السبب الذي جعله عاجزاً عن صناعة رموزه، ففي العادة يبرز الفنانون واللاعبون والكتاب بشكل كبير خارج الوطن، وطن حوَّلته الأيديولوجيا الرجعية إلى بوتقة لإعدام المتفوقين والبارزين في فضاءات رحبة وبعيدة عن نقيق الضفادع في "المستنقع".
من حُسن حظ تلك الطيور المهاجرة، أنها رحلت بعيداً عن أرض حولتها التيارات الجافة الغارقة حتى الرأس في العُقد اللغوية والفكرية والأدبية والسياسية، حتى صيرت فئة من الشعب شخوصاً مثيرة للهزل، وقطاعاً من المجتمع إلى نزلاء غرفة معزولة شبيه بمصحة مرضى نفسانيين، همهم تحطيم كل الرموز التي تعجز أمم أخرى كي تصنع واحداً منهم، قبل أن تستثمره إعلامياً، في قضايا السياسة والسياحة والدعاية الذكية وتجميل الصورة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.