كما أن اللباس لا يصنع الزاهد، فكذلك الحدائق الغنّاء لا يعتمد في إنشائها على مجهودات عمال الزراعة، أو على خدمات عمال النظافة فقط، ولا يرتكز تصميم لوحات نباتاتها الخضراء وأشجارها الباسقات على كفاءة مهندسي البستنة، ولا على كم الوقت الذي يستغرقه إنبات مزروعاتها حتى تينع وتؤتي أُكلها، لأن كل ذلك مرهون بمستوى تعليم روادها، ومقدار وعي زوارها بمفاهيم البيئة وعلاقتهم بها. وكذلك تمثلهم لطرق صيانتها وحسن استغلالها، وغير ذلك من القيم والمبادئ الإيجابية التي زرعها الآباء والمربون والمصلحون في واحات قلوب جيلنا، والتي آتى غرسهم أكله وأينعت ثماره في زمانٍ كان بحق زمناً ذهبياً انقضى على حين غرة، مخلِّفاً، وفي غفلة منا، جيلاً مختلفاً، لا كيان ولا شخصية له، غير مدرك لدوره في الحياة، ولا مكترث لأيّ شيء حوله.
جيل عاطفي غشيم وجاهل بحقيقة واقعه المعيش، جيل يتخبَّط في حيرة الانتماء، ويعيش تحت وصاية ضعفه وكسله وانتصاره للتفاهات والمنفعية والمصلحية وقلة المراعاة وانحسار اللباقة، وغير ذلك من الموصوفات السلوكية التي تصنفه في خانة الإمعات العاجزين عن تحقيق أي هدف مهما كان ضئيلاً، رغم ما أتاحته ظروف العصر من إمكانات التنعُّم بمنتجات العلم والتكنولوجيا التي لم تُتح لأي جيل قبله.
ربما يقول قائل: لماذا كل هذا التحامل على جيلٍ تعقد عليه كل الأمم آمال بناء أوطانها والنهوض بشعوبها وترقية مواطنيها؟ وما الداعي لكل تلك الأحكام المتشنجة التي أصدرتها في حقه؟ وهل هي تعبير عن عقدة الصراع التي طبعت العلاقات بين الأجيال عبر العصور والمسماة "صراع الأجيال"؟
أولاً، وقبل الرد، يجب أن نتفق على أن فكرة "صراع الأجيال"، التي بلورها في الستينيات المفكر الأميركي الألماني الأصل "هربرت ماركوزة"، ليست –حسب رأيي المتواضع- بالضّرورة صحيحة بالكلية، بحكم أن الجيل الحالي ليس مجبراً على العيش كما عاش أسلافه، لأنه على قدر كبير من الذكاء والكفاءة والمسؤوليّة، وفي جعبته الكثير من الطاقة والأفكار والإبداعات التي يحتاج إلى تفريغها فيما ينفعه ومَن حوله.
وعليه، وأمام الأخلاق السيئة، والأفعال القبيحة، والأعمال الشنيعة، والتصرفات الدميمة لكائنات سمجة بلا مروءة ولا نخوة ولا دماثة ولا نُبل، فإن تلك الأحكام والتصنيفات ليست عامة، ولا تشمل كل الجيل الحالي، بل إنها موجَّهة لتلك الفئة من هذا الجيل الذي جعلته وضاعتها وانحطاطها يستحق ما وصفته به، أكثر من ألفاظ المهانة صفات الاحتقار الموازي لضخامة خِسة ولا أخلاقية الجريمة التي ارتكبوها دون خجل أو وجل، حيث عاثوا فساداً في ممتلكات إحدى الحدائق القديمة التي تعبت الجهات المسؤولة في إعادة نبض الحياة لربوعها، وبذلت الجهود الجهيدة لتجعل من رحابها طبيعة منعشة يهرع إليها كل من تاقت نفسه لاستنشاق الهواء العليل وعبيره المنعش والتمتع بالطبيعة التي حولوا بكل حقارة وخِسة ووضاعة وانحطاط وخلال لحظات، ما استغرق نموه بها أعواماً إلى عصف مأكول وحطام أصبح أثراً بعد عين.
ورغم خطورة هذا الجرم وخِسته، وانحدار مقترفيه إلى الحضيض، يبقى الأخطر والأكثر حقارة والأشد خسة منه، هو رد الفعل المُخجل والمعيب الذي واجه به رواد الحديقة ذلك الفعل الوضع والجرم الهمجي، المتمثل في انسحاب بعضهم وانزواء البعض الآخر بالقدر الكافي الذي يجعلهم يرون ولا يُرَون، ويمكنهم من التفرج من بعيد -عملاً بالمثل المصري "ابعد عن الشر وغنيلو"- على فظاعة الدمار وضخامة الخراب الذي تعرضت له هذه الحديقة، وكأن الاهتمام بها كمرفق عام مقتصر على حارسها أو عمالها أو على المسؤولين عنها، أو كأنه ليس واجباً وطنياً وأخلاقياً ودينياً يحتِّم على كل مواطن صالح أن يعطيها وباقي المرافق العامة ما تستحق من الاهتمام والعناية القصوى، حتى نتمتع بجمالها، الأمر الذي لم يتأتَّ إلا بتعميق الإحساس بالمسؤولية في نفوس أبنائنا، ليصبح سلوكاً متجذراً في نفوس الجيل الجديد، كما حال الأجيال القديمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.