في الحديث عن تاريخ ليبيا المعاصر، وفي حقبة محمد إدريس السنوسي تحديداً، ليس اسم كرميني باشا شائعاً؛ وهذا طبيعي، في ظلّ غياب أي تأريخ فعلي للسنوسية وحركتها الجهادية ضدّ الغزو الإيطالي.
لكنه في المقابل حاضرٌ في بعض المصادر الإيطالية التي تتحدث عن حُكم الأسرة السنوسية، لعلّ أبرزها رواية الصحفي والكاتب الإيطالي جيان أنطونيو ستيلا بعنوان "كرميني باشا"، التي تسرد سيرته الذاتية وبعض تفاصيل تلك الحقبة.
بطل قصتنا هو كرميني إيماكولاتو أنطونيو يوريو، الذي أُبلغ في نهاية العام 1910 أن عليه الالتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية في نابولي، قبل أن يتم إرساله بعد عام إلى ليبيا- بعد إعلان إيطاليا الحرب عليها- ضمن القوة البحرية التي توجهت لاحتلال مدينة درنة.
سنوات قليلة كانت كفيلة بهروب كرميني يوريو من الخدمة العسكرية الإيطالية، لينضمّ إلى الجهاديين الليبيين مع عمر المختار بعد اعتناقه الإسلام، متخذاً يوسف المسلماني اسماً له.
كيف وصل كرميني باشا إلى ليبيا وصار يوسف المسلماني؟
لم تكن حياة الشاب كرميني سهلة؛ فقد كان عاطلاً عن العمل، وأمضى فترةً طويلة من شبابه يبحث عن عملٍ يساعده على تأمين احتياجاته اليومية، قبل التحاقه بالخدمة العسكرية الإلزامية، حيث برع في صيانة وإصلاح الأسلحة الصغيرة للجيش الملكي الإيطالي.
في العام 1911، تزوّج من إيطالية عن عمرٍ لا يتعدّى الـ19 عاماً، وما هي إلا أشهر حتى نُقل إلى القوة البحرية- المؤلفة من 1500 جندي- خلال الحرب العثمانية الإيطالية، ليتوجّه معها إلى مدينة درنة، شرق ليبيا.
بعد 3 سنوات من وصوله إلى درنة، انتقل إلى مدينة توكرة حيث كُلّف بمهام الحراسة. تشاجر في أحد الأيام مع قائده، حين بدأ اليأس يتسلل إلى روحه، فأوسعه ضرباً وزُجّ به في السجن لكنه نجح في الهروب.
وبعد أيامٍ طويلة في الصحراء الليبية، فقد وعيه ليستيقظ ليلة 14 يوليو/تموز 1916 ويجد نفسه أسيراً لدى السنوسيين، الذين اشتبهوا بأمره واعتقدوا أنه جاسوس.
خلال استجوابه، لاحظ الشيخ محمد السنوسي (الذي سيصبح ملكاً على ليبيا لاحقاً) وجود شارة القناص على كمّ قميصه، فأشار شقيقه الأمير محمد رضا إلى غصن شجرة في الخارج وناوله بندقية، فأصاب كرميني باشا الهدف بدقة.
مقابل الاحتفاظ بحياته، اشترط السنوسي الكبير وشقيقه الصغير على كرميني أن يقتل اثنين من أعدائهما، وهذا ما حصل. فزاد إعجاب الأميرين بمهارته في القنص، وطلبا منه تدريب ابني محمد إدريس السنوسي- الأميرين الحسن والصديق- فوافق على الفور خوفاً من إعدامه.
في السنوات المقبلة، سيتعلّم كرميني باشا الصلاة ويحفظ القرآن الكريم، قبل أن يتم أخذه إلى المجاهد الفضيل أبو عمر- أحد رفاق الشيخ عمر المختار- حيث اعتنق الإسلام واتخذ اسم يوسف المسلماني، وفقاً لما جاء في كتاب فتحي الساحلي بعنوان "المجاهد الشهيد يوسف المسلماني".
كلّ هذه التفاصيل لفتت الشيخ عمر المختار، كبير المجاهدين الليبيين، فاهتم به اهتماماً خاصاً وأرسله إلى معهده الجغبوب المحمدي- الذي كان منارةً للعلم وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء- ليتعلّم أصول الفقه والدين.
كرميني باشا الذي عيّنه عمر المختار ملازماً
انضمّ يوسف المسلماني إلى المقاومة الليبية بقيادة عمر المختار، وأصبح أحد أفضل المقاتلين على الأرض، وساعد المجاهدين بشكلٍ كبير، لا سيما من خلال خبرته في الأسلحة الصغيرة الإيطالية وتكتيكات الحرب.
كان حاضراً في معارك "مرسى البريقة"، و"بير بلال"، و"سلوق"، وغيرها.. فعيّنهُ عمر المختار ملازماً، ليترأس بعدها المعارك ويقود الغزوات في المناطق التي تخضع لسيطرة الإيطاليين، بعد أن كانت مهماته لوجستية بحتة.
خلال تلك الفترة، أي عشرينيات القرن العشرين، علمت السلطات الإيطالية بقُرب كرميني باشا من السنوسيين. وفي جلسةٍ طارئة، قرّرت المحكمة العسكرية الإيطالية نزع رتبته وإعدامه رمياً بالرصاص. وفي الفترة نفسها، كان الشاب الإيطالي قد حظيَ بثقة عمر المختار ورفاقه المجاهدين.
ولما تأقلم مع طابع الحياة في الصحراء الليبية، استقرّ كرميني باشا في جالو وتزوّج من مجاهدة تنتمي إلى قبيلة المجابرة وتُدعى تبرة موسى المجبري، ثم أنجبا طفلين: محمد (عام 1927) وعائشة.
وفقاً لرواية الصحفي الإيطالي جيان أنطونيو ستيلا، المُستنَدة على مذكرات المجاهد الإيطالي- والتي تحوّلت إلى مسرحية في العام 2018- فقد عاش الزوجان حياةً هانئة برفقة ولديهما، إلى أن استولى بينيتو موسوليني، رئيس الدولة الإيطالية، على الحكم في روما.
وقتئذٍ، انطلقت حملة عودة الاحتلال الإيطالي إلى الأراضي البرقاوية والطرابلسية، بعدما كان سُحب الجنود إلى بلادهم، خلال الحرب العالمية الأولى.
وفي ديسمبر/كانون الأول 1928، أُلقي القبض على كرميني باشا بالقرب من مدينة إجدابيا، على بعد 20 كيلومتراً من واحة جالو، بعد وشايةٍ من أحد الجنود. وبعد وصول فرقة محكمة الطوارئ العسكرية، تمّت محاكمة يوسف المسلماني بحضور كبار الشخصيات الإيطالية، وتقرّر إعدامه بتهمة الخيانة العُظمى.
وفقاً لموسوعة ويكيبيديا، وفي لحظاته الأخيرة، عرضت عليه السلطات الإيطالية الارتداد عن الإسلام والعودة إلى أهله في نابولي. فرفض بشدّة، مُعلناً أنه سيرحل عن هذه الدنيا مُسلماً. وقبل إعدامه رمياً بالرصاص يوم 18 ديسمبر/كانون الأول، وسط ساحة سوق جالو، قرأ بعض آياتٍ من القرآن.