قد يعتقد بعضنا أن مشروع التحكم بالعقل هو محض فكرة موجودة بالأفلام الاستخباراتية وأفلام الحروب والخيال العلمي فقط، لكن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) أجرت تجارب في مشروع التحكم بالعقل "إم كي ألترا"، واعترفت بذلك بعد إنكار لسنوات، وقد أجرت التجارب على المشروع على مدار 10 سنوات في ذروة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وأخضعت أشخاصاً مغلوبين على أمرهم لبعض التجارب الأكثر إثارة للقلق في التاريخ.
مشروع التحكم بالعقل خلال الحرب الباردة
اقتناعاً منها بأنَّ الاتحاد السوفييتي قد طوَّر قدرات التحكم بالعقول، حاولت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية فعل نفس الشيء، بدايةً من عام 1953، من خلال برنامج مُوسّع أُطلق عليه اسم مشروع "إم كي ألترا" (MK Ultra) ونُفِّذ عبر 80 مؤسسة وجامعة ومستشفى في مختلف أنحاء الولايات المتحدة.
انطوى هذا البرنامج على تجارب مروِّعة، من بينها الصعق بالكهرباء والاعتداء اللفظي والجنسي، وحقن الأشخاص بكميات هائلة من عقار ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك (LSD)، لكن ظل هذا البرنامج سرياً، حتى عند انتهائه في سبعينيات القرن الماضي، أُتلفت الوكالة معظم السجلات المتعلقة به، بناءً على أوامر مباشرة من مدير وكالة الاستخبارات المركزية.
وانتهى بالفعل هذا البرنامج باستثناء خط صغير في التخزين نجم عنه ترك بعض الوثائق والمستندات سليمة عن غير قصد، ما ساعد في كشفه وتسليط الضوء على هذا البرنامج، حتى أنَّ الجمهور يستطيع حالياً الوصول إلى حوالي 20 ألف وثيقة تتعلق بتجارب التحكم بالعقل الخاصة بمشروع "إم كي ألترا".
لكن جميع هذه الوثائق ما هي إلا نافذة صغيرة على ما قد يكون واحداً من أكبر البرامج السرية للحكومة الأمريكية، وأبشعها على الإطلاق في التاريخ الأمريكي.
مرحلتان: غسيل الدماغ، ثم إعادة ملئه بأفكار جديدة
مع وصول الحرب الباردة إلى ذروتها في أوائل خمسينيات القرن الماضي، أصبح مجتمع الاستخبارات الأمريكي مهووساً على نحو متزايد بالتطورات التقنية المتنامية للاتحاد السوفييتي.
خشيت الحكومة الأمريكية من التخلّف عن الاتحاد السوفييتي فيما يتعلق بتقنيات الاستجواب الجديدة. أشارت تقارير خلال الحرب الكورية (ثَبُت أنها خطأ لاحقاً) إلى أنَّ القوات الكورية الشمالية والقوات السوفييتية قد طوّرت قدرات السيطرة على العقول، وأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية لم تستطع السماح لهم بالحصول على هذه الميزة وحدهم.
وبناءً عليه، في 13 أبريل/نيسان 1953، أجاز مدير وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك، ألين ويلش دالاس، برنامج "إم كي ألترا"، الذي سرعان ما ترأسه الكيميائي وخبير السموم، سيدني غوتليب. كان غوتليب معروفاً في الدوائر الحكومية السرية باسم "الساحر الأسود".
كان أحد الأهداف الأصلية لغوتليب هو إنشاء مصل للحقيقة يمكن استخدامه ضد الجواسيس السوفييت وأسرى الحرب من أجل انتزاع الاعترافات وجمع المعلومات الاستخباراتية.
ربما لا غرابة في أنَّ إنتاج مثل هذا المصل أمراً صعباً. بدلاً من ذلك، اعتقد الباحثون أنَّ نوعاً من التحكم بالعقل يمكن تحقيقه من خلال وضع الشخص المستهدف في حالة عقلية متغيّرة بشدة بمساعدة عقاقير تجريبية ذات تأثيرات جامحة.
وفقاً للصحفي ستيفن كينزر، أدرك غوتليب أنَّه من أجل التحكم بالعقل البشري، يجب أولاً محو كل ما بداخل العقل من قيم وأفكار -وهي العملية المعروفة أيضاً باسم "غسيل الدماغ". ثانياً، كان يتعيَّن إيجاد طريقة لإدخال عقلية جديدة بأفكار ومعتقدات جديدة في هذا الفراغ الناتج. قال كينزر: "لم يستطع غوتليب الإنجاز كثيراً في المرحلة الثانية، لكنَّه أنجز الكثير من العمل فيما يخص المرحلة الأولى".
وبحسب عبارات غوتليب نفسه، بحثت هذه التجارب الذهنية الخاصة ببرنامج "إم كي ألترا" في كيف يمكن للعقاقير "تعزيز قدرة الأفراد على تحمّل الحرمان والتعذيب والإكراه، فضلاً عن حدوث اضطراب في الذاكرة وصدمة وإرباك".
أضافت وثيقة تعود إلى عام 1955 رُفعت عنها صفة السرية إنَّ برنامج "إم كي ألترا" عمل على رصد "العقاقير التي ستؤدي إلى تسريع تقدّم الضحية في السن مع إبطاء حدوث النضج العقلي، بالإضافة إلى استخدام المواد الكيميائية التي من شأنها تعزيز التفكير غير المنطقي والسلوك الاندفاعي إلى درجة مخزية تجعل الضحية تفقد رجاحة عقلها أمام العامة". ومن هذا المنطلق، بدأ علماء مشروع "إم كي ألترا" في ابتكار تجارب تغيير العقل بأهداف خبيثة ونتائج كارثية.
كيف نُفِّذت تجارب "إم كي ألترا" للتحكم بالعقل؟
أُجريت تجارب برنامج "إم كي ألترا" للتحكم بالعقول في سرية تامة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ وكالة الاستخبارات المركزية كانت تدرك جيداً معيارها الأخلاقي المشكوك فيه. انتشرت تجارب البرنامج البالغ عددها 162 تجربة عبر العديد من المدن والجامعات والسجون والمستشفيات بمشاركة 185 باحثاً –لم يكن العديد منهم على دراية حتى بأنَّ هذا العمل لصالح وكالة الاستخبارات المركزية.
غالباً ما تضمنت الطريقة التجريبية الأولية، في جميع الحالات، إعطاء كميات كبيرة من عقاقير مختلفة تؤدي إلى حدوث تغييرات في وظائف العقل على أمل غسيل الدماغ البشري بالطريقة التي أرادها غوتليب.
تلقى ضحايا البرنامج جرعات من عقار ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك (LSD) ومسكنات أفيونية ومادة رباعي هيدرو كانابينول (THC) ومهلوسات فائقة التأثير مصنّعة حكومياً، بالإضافة إلى جرعات من المواد المتاحة على نطاق واسع مثل الكحول. قد يعطي الباحثون في بعض الأحيان عقارين لهما تأثيرات معاكسة في وقتٍ واحد ومراقبة ردود الأفعال.
بصرف النظر عن العقاقير، استخدم الباحثون أيضاً التنويم الإيحائي (أو التنويم المغناطيسي)، في محاولة غالباً لإثارة الخوف داخل نفوس الأشخاص المستهدفين، بحيث يمكن استغلالهم بعد ذلك للحصول على معلومات. خضع أيضاً المشاركون في هذا البرنامج المُروّع لعدة تجارب تنطوي على العلاج بالصدمات الكهربائية والتحفيز السمعي والعقاقير المُسبّبة للشلل.
على سبيل المثال، كان أحد القائمين على التجربة، دونالد كاميرون (أول رئيس للجمعية العالمية للأطباء النفسيين ورئيس الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين) يُخدّر الضحايا ويُشغّل أشرطة مراراً وتكراراً تصدر ضجيجاً شديداً أثناء إبقاء هؤلاء الأشخاص في حالة غيبوبة لفترات طويلة من الزمن، بهدف إحداث اضطرابات سمعية وذهنية لإعادة برمجة عقولهم.
في الواقع، أدخلت هذه الاختبارات ضحاياها في حالة غيبوبة لعدة أشهر في كل مرة، فضلاً عن معاناة دائمة من تبول لا إرادي وفقدان الذاكرة.
ابتكر أحد القائمين الآخرين على تجارب البرنامج، وهو عالم الأعصاب وسلوك الحيوان، جون سي ليلي، أول خزان حرمان حسي –والذي يطلق عليه أيضاً اسم "خزان العزل" أو خزان الطفو"- من أجل أبحاثه في التواصل البشري مع الدلافين.
كان الشخص المشارك في التجربة يدخل إلى خزان الحرمان الحسي من أجل اختبار تأثيرات تجاربهم على العقول، بعيداً عن محفزات العالم الخارجي.
مع وجود مثل هذه الترسانة من الأدوات المتاحة للباحثين، نجحت تجارب مشروع "إم كي ألترا" في إحداث اضطرابات شديدة في العقل البشري، لكن بتكلفة كبيرة لهؤلاء الخاضعين لهذه التجارب رغماً عن إرادتهم، كما أشار تقرير موقع All That's Interesting الأمريكي.
مَن كان يخضع لتجارب مشروع التحكم بالعقل؟
نظراً للطبيعة السرية للبرنامج، لم يكن العديد الأشخاص محل الاختبار على دراية بمشاركتهم في البرنامج واعترف غوتليب بأنَّ فريقه استهدف "الأشخاص غير القادرين على المقاومة أو الانتقام، من ضمنهم سجناء مدمنين على المخدرات ومشتغلين بالجنس مُهمَّشين ومرضى عقليين ومرضى مصابين بالسرطان في مراحله النهائية.
كان هناك أيضاً بعض المشاركين من الطلاب المتطوعين المأجورين أو المدمنين الذين وُعدوا بمزيد من المخدرات حال مشاركتهم.
تحدث بعض الخاضعين للتجارب طواعيةً عن مشاركتهم في البرنامج. على سبيل المثال، كين كيسي، الكاتب الأمريكي ومؤلف كتاب "أحدهم طار فوق عش الوقواق، الذي انضم إلى تجارب البرنامج عندما كان طالباً في جامعة "ستانفورد" بهدف رصد حالته أثناء تناول عقار (LSD) وعدد من العقاقير المخدرة الأخرى.
الأهوال التي مرَّ بها المشاركون
تعرَّضت أعداد لا تحصى من الخاضعين لتجارب برنامج "إم كي ألترا" لانتهاكات مُروّعة باسم العلم. في إحدى التجارب، حُقن مريض عقلي في ولاية كنتاكي بجرعة من عقار "LSD" كل يوم لمدة 174 يوماً متتالياً. في مكانٍ آخر، أفاد رجل العصابات، وايتي بولغر، أنَّه كان يتلقى جرعات من عقار "LSD" وطُرحت عليه أسئلة متكررة مثل: "هل يمكنك قتل أي شخص في يوم من الأيام؟". أشار بولغر في وقتٍ لاحق إلى أنَّ سلوكه الإجرامي نجم جزئياً عن مشاركته في تجارب التحكم بالعقل التابعة لمشروع "أم كي ألترا".
ثمة مشارك آخر غير مسجَّل، لكن يُشتبه أنَّه تشارلز مانسون، الذي أدين بإصدار أوامر بتنفيذ سلسلة من جرائم القتل الوحشية الصادمة في لوس أنغلوس في عام 1969. كانت الطريقة التي أدار بها مانسون طائفته من خلال إعطاء أتباعه جرعات مستمرة من عقار "LSD" مشابهة بشكل غريب مع أنواع تجارب برنامج "إم كي ألترا".
لم يكن جميع الخاضعين لتجارب هذا المشروع من المدنيين، إذ كان بعضهم من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نفسها. زعم غوتليب أنَّه أراد دراسة تأثيرات عقار "LSD" في ظروف حياة طبيعية -لذا بدأ في إعطاء جرعات من العقار لعدد من مسؤولي وكالة الاستخبارات بدون علمهم.
استمرت هذه التجارب لأكثر من عقد من الزمان حتى بعد أن بدأ العالم المتخصص في برامج الأسلحة البيولوجية بالجيش الأمريكي، فرانك أولسون، يعاني من الاكتئاب الناجم عن تعاطي المخدرات وانتهى به الحال بالقفز من الطابق الـ13 من نافذة غرفته بأحد فنادق نيويورك.
أما بالنسبة لمن نجوا من هذا البرنامج السري المُروّع، فقد تضمنت تداعيات التجارب معاناتهم من آثار طويلة المدى تُركت دون علاج، مثل الاكتئاب وفقدان الذاكرة الرجعي وفقدان الذاكرة التقدمي والشلل والانسحاب الاجتماعي والتوهان والأرق والحالات العقلية الشبيهة بالفصام.
كيف خرجت المعلومات عن برنامج "إم كي ألترا" إلى النور؟
في أوائل عام 1973 في أعقاب فضيحة ووترغيت، أمر مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ريتشارد هيلمز، بتدمير جميع الملفات الخاصة بالبرنامج، خشية حدوث تحقيق مع جميع الوكالات الحكومية وكشف المعلومات بشأن هذا الموضوع المثير للجدل. لكن في عام 1975، أمر الرئيس الأمريكي، جيرالد فورد، بإجراء تحقيق في أنشطة وكالة الاستخبارات بهدف القضاء على المؤامرات داخل تلك المؤسسة.
كشفت التحقيقات الشاملة أنَّ هيلمز قد دمَّر معظم الأدلة المتعلقة بالبرنامج. لكن في نفس العام، اُكتشفت مجموعة مكوّنة من 8 آلاف وثيقة في مبنى السجلات المالية، ونُشرت لاحقاً بموجب قانون حرية المعلومات في عام 1977.
عندما باتت الوثائق متاحة للجمهور، أطلق مجلس الشيوخ مجموعة من جلسات الاستماع حول المعايير الأخلاقية في هذا المشروع في وقتٍ لاحق من ذلك العام. بدأ الناجون حينها يُقدّمون دعاوى قضائية ضد وكالة الاستخبارات المركزية والحكومة الفيدرالية استناداً إلى مبدأ الموافقة المستنيرة.
حصل 77 شخصاً من الخاضعين لتجارب البرنامج دون علمهم على تسوية في عام 1992 في حين فشل كثيرون آخرون على مدار سنوات لاحقة في الحصول على أية حقوق قانونية بسبب مدى صعوبة الإثبات بشكل قاطع أنَّ هذه التجارب السرية تسبَّبت في معاناتهم العقلية.
ومنذ الكشف عن تلك الوثائق، أُنتجت العديد من المسلسلات والأفلام المستوحاة من تجارب التحكم بالعقل التابعة لمشروع "إم كي ألترا"، وكان أبرزها فيلم Men Who Stare at Goats The وسلسلة Stranger Things.
تصر وكالة الاستخبارات المركزية على أنَّ هذه التجارب قد توقفت في عام 1963، وانتهت جميع التجارب ذات الصلة. ومع ذلك، لا يزال أصحاب نظرية المؤامرة متشكّكين في هذا الأمر، نظراً لتدمير السجلات والسرية الشديدة المحيطة بالمشروع، لدرجة أنَّ البعض منهم يعتقد أنَّ التجارب لا تزال جارية حتى يومنا هذا.
انطلاق "الحرب الباردة" بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية
على الرغم من الاختلاف حول تاريخ المصطلح، فإن المتفق عليه هو أنها مواجهة سياسية وأيديولوجية وأحياناً عسكرية بشكل غير مباشر، وأبرز الحروب الباردة دارت أحداثها خلال 1947-1991 بين أكبر قوتين في العالم خرجتا بعد الحرب العالمية الثانية هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وحلفاء كل منهما .
كان من أبرز مظاهر هذه الحرب انقسام العالم إلى معسكرين: شيوعي يتزعمه الاتحاد السوفييتي وليبرالي تتزعمه الولايات المتحدة، وأحداث دولية أدت بالقوتين العظميين إلى حافة كارثة نووية.
رغم أن الحرب العالمية الثانية شهدت تحالف الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية بجانب بريطانيا وفرنسا، للتصدي للعدو النازي المشترك، ولكن هذا التحالف لم يدُم طويلاً، إذ كان واضحاً الخلاف السياسي والأيديولوجي بينهما، سرعان ما كُشف عنه فور انتهاء الحرب.
فبعد استسلام ألمانيا النازية في شهر مايو/أيار 1945 وبالقرب من نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأ التحالف المضطرب بين الدول المنتصرة بالانهيار. ففي شهر فبراير/شباط 1945، تم عقد مؤتمر يالطا في شبه جزيرة القرم، جمع ثلاثة حلفاء في الحرب العالمية الثانية، هم: الرئيس الأمريكي فرانكلين دي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، ورئيس الوزراء السوفييتي جوزيف ستالين.
ناقش قادة الحلفاء "الثلاثة الكبار" مصير ما بعد الحرب لألمانيا المهزومة وبقية أوروبا، وتحديد مصير العالم، وشروط دخول السوفييت في الحرب الجارية في المحيط الهادئ ضد اليابان وتشكيل وتشغيل الأمم المتحدة الجديدة، لمنع تكرار ما حدث من دمار مرة أخرى.
لكن سرعان ما اتضحت حالة عدم الثقة السائدة بين الحلفاء الغربيين والسوفييت، فقد أرادت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي التعاون ولكن وفقاً لشروطهما، وتحقيق مصالح سياستهما التوسعية الخاصة، وبدأ ملامح التوتر بالوضوح للدخول في مرحلة جديدة من الحرب الطويلة، تعتمد على النفَس الطويل وتشمل كل رقعة في العالم، بالتأكيد هي الحرب الباردة.
كان أكبر تخوف لدى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية هو التمدد الشيوعي وسعي الاتحاد السوفييتي إلى ضم بلدان من أوروبا الشرقية أو جعلها تحت وصايته، وتأكدت هذه المخاوف بانعقاد مؤتمر بوتسدام (يوليو/تموز – أغسطس/آب 1945)، حينما رفض ستالين تنظيم انتخابات ديمقراطية في بولندا، مما أجج خلافاً محتدماً بين الطرفين.
السياسة الأمريكية تبنت سياسة استراتيجية تسمى "الاحتواء" لصد المد السوفييتي، ومحاصرته في مناطق معينة ومد يد العون والدعم للبلدان التي تريد الابتعاد عن السوفييت، فأطلقت واشنطن "مشروع مارشال"، وهو مشروع اقتصادي انطلق بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لإعادة تعمير أوروبا، وقد وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية.
لكن عندما أدت المساعدة الأمريكية المقدمة بموجب خطة مارشال إلى أوروبا الغربية إلى وضع تلك البلدان تحت النفوذ الأمريكي، توطدت الحرب الباردة في عامي 1947-1948، وهنا؛ أقام السوفييت أنظمة شيوعية علانية في أوروبا الشرقية.
ذروة الحرب الباردة.. الصراع بين القوى العظمى
بلغت الحرب الباردة ذروتها بين عامَي 1948 و1953، عندما حاصر السوفييت القطاعات التي يسيطر عليها الغرب في برلين الغربية، فيما شكلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ففي العام 1949 أعلن السوفييت امتلاكهم أول قنبلة ذرية، أنهوا فيه الاحتكار الأمريكي لها، ثم وصل الشيوعيون الصينيون إلى السلطة في الصين في العام نفسه، وبعدها حكومة كوريا الشمالية الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفييتي.
وقد صاحبت فترة الحرب الباردة عدة أزمات دولية مثل أزمة حصار برلين، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، وغزو خليج الخنازير، والغزو السوفييتي لأفغانستان وأزمة الصواريخ الكوبية، وكذلك أزمات طالت الوطن العربي.
أزمة حصار برلين
بعد انهزام ألمانيا النازية في الحرب، تمكنت القوات السوفييتية من السيطرة على برلين بعد مقاومة عنيفة من الألمان، بينما تمكنت قوات الحُلفاء المُكونة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا من عبور نهر الراين بعد استسلام شبه جَماعي من القوات الألمانية، فأصبحت ألمانيا وبرلين الشرقية تحت سيطرة السوفييت وألمانيا وبرلين الغربية تحت سيطرة الحُلفاء، وفي العام 1961 قامت حكومة ألمانيا الشرقية ببناء جِدار برلين لفصل عاصمتهم عن المدينة التابعة لألمانيا الغربية.
لكن خلال الحرب الباردة، نشأت أزمة عندما حاول الاتحاد السوفييتي (بين عامي 1948 و1949) إجبار قوى الحلفاء الغربية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا) على التخلي عن سلطاتها القضائية بعد الحرب العالمية الثانية في برلين الغربية.
لذلك قررت قوات الحلفاء توحيد مناطق احتلالها المختلفة في ألمانيا في وحدة اقتصادية واحدة، فقام الممثل السوفييتي بالانسحاب من مجلس مراقبة الحلفاء، بالتزامن مع إدخال عملة جديدة في برلين الغربية والتي اعتبرها السوفييت انتهاكاً للاتفاقيات مع الحلفاء.
وقد أقامت القوات السوفييتية حصاراً مشدداً على جميع السكك الحديدية والطرق والمياه الاتصالات بين برلين والغرب، معلنة انتهاء حكم الغرب في ألمانيا، لكن الولايات المتحدة وبريطانيا قاموا بتزويد المدينة بالطعام والإمدادات الحيوية الأخرى عن طريق الجو، بتكلفة إجمالية قدرها 224 مليون دولار.
الحرب الكورية
اندلعت الحرب الكورية الأهلية في شبه الجزيرة الكورية بين عامي 1950 و1953، حيث كانت مقسمة إلى جزئين شمالي وجنوبي، الجزء الشمالي يقع تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي، والجزء الجنوبي خاضع لسيطرة لجنة الأمم المتحدة المؤقتة لكوريا بقيادة الولايات المتحدة.
وفي منتصف العام 1950، هاجمت كوريا الشمالية كيم إيل سونغ كوريا الجنوبية بهدف توحيد الكوريتين، بمباركة من ستالين، ثم توسعت نطاق الحرب بعد أن أرسلت أمريكا والأمم المتحدة قواتها لشبه الجزيرة الكورية دعماً لكوريا الجنوبية، واستطاعت تحقيق نجاحٍ في مواجهة القوات الكورية الشمالية، ثم قررت غزو كوريا الشمالية لتوحيد شبه الجزيرة الكورية، تحت قيادة الجنوبيين الموالين لها.
لم يتدخل الاتحاد السوفييتي بشكل فعلي في الحرب، فرأت الصين الشيوعية أن عليها التدخل خوفاً من انتصار أمريكا التي ستكون حتماً عند حدودها، وفي منتصف عام 1953 انتهت الحرب القصيرة، ولكنها خلفت ملايين القتلى من جميع الأطراف لم يحدد عددهم الفعلي حتى اليوم، كما أنها لم تشهد أيّة مفاوضات سلمية بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، ولم يتحقق أبداً هدف الأمم المتحدة (هدف أمريكا) الأولي المتمثل في توحيد الدولتين الكوريتين.
وبعد مرور ما يزيد على 6 عقود، ما زالت حدة التوتر في شبه الجزيرة الكورية تقلق العالم بأسره.
غزو خليج الخنازير
أزمة جديدة حدثت في 17 أبريل/نيسان عام 1961، عندما حاولت جماعة Brigade 2506 شبه العسكرية التي ترعاها المخابرات المركزية الأمريكية غزو كوبا، للإطاحة بحكومة كوبا الشيوعية التي يرأسها فيدل كاسترو.
القوات المسلحة الثورية الكوبية، استطاعت هزيمة الجنود الأمريكيين بشكل ساحق، أجبرتهم على الانسحاب في مدةٍ لم تتجاوز ثلاثة أيام فقط، لتشكل إحراجاً كبيراً للسياسة الأمريكية، وتبدأ الدولة الجارة لأمريكا، بزيادة نفوذ الحكم الشيوعي في البلاد وتعزيز الصلات مع الاتحاد السوفييتي أكثر.
تاريخ الحرب الباردة: طائرات تحلق فوق خليج الخنازير أثناء الأزمة – Pixels
وهكذا هدد التواجد السوفييتي في كوبا الواقعة على حدود أمريكا الأمن القومي الأمريكي. فقد قادت هذه الهزيمة التي جلبت السوفييت إلى أزمةٍ أخرى كادت تؤدي لنشوبِ حربٍ نووية بين البلدين، وتلك هي الأزمة المعروفة بأزمة الصواريخ الكوبية في العام اللاحق.
أزمة الصواريخ الكوبية
حيث بدأت أزمة الصواريخ الكوبية في 8 أكتوبر/تشرين الأول 1962، ووصلت ذروتها في 14 أكتوبر/تشرين الأول عندما أظهرت صور التُقطت من طائرة التجسس الأمريكية "لوكهيد U-2" وجود قواعد صواريخ سوفييتية نووية تحت الإنشاء في كوبا.
تُعتبر هذه الحادثة الصواريخ أول مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بالإضافة لكونها الأساس لتدشين اتفاقيات كبرى من أجل الحدّ من الأسلحة النووية على مستوى العالم.
إذ فكّرت الولايات المتحدة في إطلاق حملة عسكرية واسعة على كوبا، وقصف مواقع الصواريخ وتدميرها وقتل الخبراء السوفييت، إلا أنّ الرئيس الأمريكي جون كينيدي كان متخوّفاً من الرد السوفييتي القاسي على الجبهة الألمانية، واحتلال العاصمة برلين، لذلك فضل فرض حصار بحري مشدد على كوبا.
انتهت الأزمة في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1962، بعدما توصّل الطرفان إلى اتفاق يقضي بإزالة الصواريخ السوفييتية ومنصات إطلاق من الأراضي الكوبية شريطة أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا وأن تتخلص بشكل سري من صواريخ "ثور" و"جوبيتر" المنصوبة في بريطانيا وكلٍّ من إيطاليا وتركيا.
وتنفيذاً لشروط الاتفاق، أُزيلت الصواريخ السوفييتية ووُضعت على السفن من أجل إرسالها إلى الاتحاد السوفييتي في الفترة ما بين 5 و9 نوفمبر/تشرين الثاني 1962، لينتهي بعد ذلك الحظر البحري على كوبا بشكل رسمي يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.
حرب فيتنام
تعد حرب فيتنام (1955-1975) واحدة من أسوأ الحروب في تاريخ الولايات المتحدة، حيث خسر الأمريكان أرواح بالآلاف في الحرب، كما منيت بهزيمةٍ نكراء وأُجبرت على الانسحاب في النهاية.
دارت الحرب في البداية بين القوات الشيوعية في شمال فيتنام بدعمٍ من الدول الشيوعية المتمثلة في الاتحاد السوفييتي والصين، وبين حكومة جنوب فيتنام بدعمٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن تحالف العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
تاريخ الحرب الباردة: صورة لحرب فيتنام – Flickr
الولايات المتحدة لم تتوقَّع أن تستغرق الحرب كل هذه المدة، كما أنها تسببت في قتل أكثر من مليون شخص من الجانبين، وخسائر مادية كبيرة لأمريكا التي كادت أن تفلس من هذه الحرب، بالإضافة إلى حالة الاستنكار الشعبي الأمريكي لهذه الحرب غير المنطقية، لذلك قرر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إنهاء تدخل الولايات المتحدة في الحرب، وجرى التفاوض بشأن وقف إطلاق النار في عام 1973.
بعدها بعامين، استسلمت فيتنام الجنوبية لحكومة الشمال الشيوعية، وبانقضاء الحرب عانت أمريكا من انتكاسة كبيرة في الحرب الباردة. وَحَّدت حكومة فيتنام الشمالية قطبَي البلاد ليصبحا دولة فيتنامية شيوعية واحدة، لتظل على ذلك الحال حتى يومنا هذا.