ولد يونس بحري في الموصل عام 1900، وتوفي ببغداد سنة 1979، وبين هذين التاريخين كانت هناك حياة حافلة بالمغامرات والأحداث التي تكاد لا تصدق، بين الصحافة وتأليف الكتب وصداقة الملوك، والسفر والترحال بين دول العالم، وحياة عابد تقي ورع في النهار، حتى أصبح إمام جامع ومفتياً، وحياة العبث والملاهي في الليل، حتى أصبح راقصاً محترفاً يتقاضى المال للرقص، وقائمة معارف ضمت هتلر من ألمانيا، والملك عبد العزيز آل سعود مؤسس السعودية، والملك غازي من العراق، وأنور السادات من مصر… والقائمة لا تنتهي.
ومئات الزوجات من مختلف الجنسيات، وإتقان 17 لغة، وحصوله على عشرات الجنسيات، وعاش عيشة أمراء، لكنه مات فقيراً مشرداً.
ولادة يونس بحري ونشأته
اسمه الحقيقي هو "يونس صالح أغا الجبوري"، وكما هي حياته مثيرة للجدل فتاريخ ميلاده مختلف عليه أيضاً، يذكر المؤرخ الدكتور "سيّار الجميل" أن "يونس بحري" ولد في الموصل عام 1900 كما يذكر "يونس بحري" في مذكراته، أو في عام 1903 كما أشيع عنه، أو في عام 1897 كما يذكر بعض المؤرخين.
وكان والده يعمل في الجيش العثماني، ينقل البريد بين العاصمة إسطنبول وولاية الموصل، نشأ وترعرع يونس بحري في الموصل، ويقال إنه كان صبياً ذكياً وشقياً لا يمكن السيطرة عليه أبداً منذ نعومة أظفاره، وعرف عنه حركته المستمرة ومقالبه.
وفي الوقت نفسه كانت علامات النبوغ واضحة عليه منذ الصغر، فكان قارئاً نهماً، وباستطاعته ترديد فقرة كاملة دون نقصان وهو يسمعها لأول مرة.
درس في مدارس الموصل، وتخرج في ثانويتها المركزية الشهيرة، وكان في أيام العطلات يعمل موزعاً لجريدة "الموصل"، كما عمل موزعاً للطعام الذي تبرع به الأثرياء على الجياع، أيام المجاعة الكبرى التي اجتاحت الموصل في الحرب العالمية الأولى.
بالإضافة للغة العربية، أجاد يونس بحري اللغتين الكردية والتركمانية، بحكم تنقلاته مع أخيه في عدة أقضية ومناطق عراقية.
كيف حصل على لقب "بحري"؟
غادر يونس العراق عام 1923 إلى إسطنبول لدراسة العلوم البحرية، ويقال إنه اكتسب لقب بحري من دراسته تلك، ولكن هناك قصة أُخرى أكثر إثارة عن سبب حصوله على هذا اللقب.
بحسب موقع العربية فإنه "بعد أن وصل صدفة في إحدى جولاته سائحاً في منتصف الثلاثينيات إلى بريطانيا، إلى الساحل الذي ينطلق منه سباحو العالم لعبور قناة المانش، وهي مضيق بحري موجود بين فرنسا وإنجلترا؛ تقدم يونس باسمه وباسم بلاده العراق لدخول المسابقة".
وكان هذا قبل ساعات من بدء المسابقة، دون تحضير سابق أو تدريب، فعبر القناة محرزاً المركز الأول، مسجلاً سابقة لا مثيل لها، فأطلقت الصحافة عليه تسمية "يونس بحري".
290 زوجة.. وأبناء متناثرون حول العالم
تزوج يونس بحري لأول مرة من امرأة موصلية، وأنجب منها ولدين وبنتاً؛ هما الأستاذ الدكتور لؤي بحري، وهو يعمل في إحدى الجامعات الأمريكية، والثاني هو الدكتور سعدي يونس، الفنان الأكاديمي المتخصص في الفنون المسرحية، والذي درس في جامعة السوربون في فرنسا، والبنت هي الأستاذة الدكتورة منى بحري، الأستاذة المتقاعدة حالياً من جامعة بغداد، والمتخصصة بعلم النفس، والتي تعيش في العاصمة الأردنية عمان.
في عام 1923 انطلق يونس في أول رحلة حول العالم، دون أن يحمل معه أي نقود كما يذكر في مذكراته التي تناولها المؤرخ العراقي الأستاذ "سيّار الجميل" في محاضرة في كندا، وترك يونس بحري زوجته وأطفاله وراءه، فكانت محطته الأولى إيران، وعاش فيها فترة، وهناك تزوج من سيدة تدعى "شهرزاد"، وطلقها بعد فترة، وقرر السفر إلى تركمانستان، ثم أفغانستان والهند وصولاً إلى الشرق الأقصى، فزار إندونيسيا ثم الصين واليابان.
سافر "يونس بحري" بعد ذلك إلى الولايات المتحدة وكندا، ثم عبر المحيط ووصل أوروبا، وزار بريطانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وألمانيا، ويبدو أن علاقته قد توثقت بألمانيا منذ رحلته الأولى. ثم عاد عن طريق سويسرا وإيطاليا واليونان إلى تركيا، ومنها إلى سوريا ولبنان وفلسطين، ووصل مصر التي وثق علاقاته مع أدبائها ومثقفيها وكتب في صحافتها، ثم عاد إلى العراق.
وفي كل دولة أو مدينة يقيم فيها، كان يونس بحري يتزوج امرأة لفترة قصيرة ثم يطلّقها، حتى قال إنه تزوج 90 امرأة زواجاً شرعياً، وأكثر من 200 زواج مدني، وأنجب 365 ذكراً، ولا يعلم عدد الإناث، ويقول إن عنده أكثر من 1000 حفيد، وبحسب موقع العربية: "سأل أحد الصحافيين يونس بحري وهو في نهايات عمره: كيف تزوجت هذا العدد الكبير من النسوة، وأنت مسلم، والإسلام لا يبيح إلا 4 زوجات؟ فأجابه: أنا لم أتبع إلا الشرع، ولم أتزوّج إلا كما جاء في القرآن؛ إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
مفتي إندونيسيا في النهار و"راقص" في الليل!
يذكر الصحفي العراقي جواد الحطاب قصة لقاء يونس بحري بملك السعودية عبد العزيز آل سعود، في عام 1925، واستطاع يونس إقناعه بأن يقوم بدور داعية في آسيا، وفتح جريدة هناك، مع صديقه الكويتي الأديب الأمير عبد العزيز الرشيد، بتمويل من الملك.
اقتنع الملك لأنه وجد نفسه أمام شخصية جذابة مؤثرة، ويجيد عدة لغات قد تزيد على 20 لغة. وشخصية ملمة بكل ما يحيط بالدنيا من ثقافات ومعلومات.
إلى جانب مواهب أخرى؛ منها أنه كان خطيباً مفوها ينفذ إلى قلوب سامعيه، فمنحه الملك المال وعدداً من المصاحف، وطلب منه الانطلاق إلى قلب آسيا، ونشر الدعوة إلى الحج في جزر الهند الشرقية.
وغادر يونس مع صديقه الكويتي إلى جنوب شرق آسيا، وصل يونس بحري والرشيد لإندونيسيا، وأصدرا هناك عام 1931 جريدة "الكويت والعراقي"، ووجد أنه لا بأس من إصدار مجلة أخرى تحت عنوان "الحق والإسلام"، ولا أحد يعلم بالضبط كيف استطاع لاحقاً أن يتدرج في المناصب الدينية ليصبح في النهاية مفتياً لإندونيسيا!
وتذكر بعض المصادر قصة له وهو في منصب المفتي هناك، أن جاءه أحد السكان المسنين وبصحبته فتاة جميلة، طالباً منه عقد قرانه عليها، لكن يونس بحري أعجب بها، وقال للرجل المسن إنه لا يجوز شرعاً للرجل الطاعن في السن الاقتران بفتاة أصغر منه، فصدّقه الرجل لكونه مفتياً فترك الفتاة، وتزوجها يونس بحري بعد ذلك.
والغريب أن يونس كان يعمل مفتياً في النهار، ولحبه للرقص كان يعمل راقصاً في ملهى ليلي في المساء، وقد فعل الشيء نفسه حين كان في باريس، في العشرينيات حيث عاش قرب مسجد صغير.
وكان إلى جانب المسجد، مطعم مغربي، وملهى ليلي، كان يونس بحري يؤذن للصلوات الخمس في المسجد، ويتولى الإمامة بالمصلين عند الحاجة، وفي الليل كان يرأس تخت الموسيقى في الملهى، فيعزف على العود ويغني الأدوار التي يجيدها، ولا يتأخر عن المشاركة بالرقص.
تحريضه على أول انقلاب عسكري في العالم العربي
بفضل براعته في العلاقات العامة، تمكّن يونس بحري من إقامة صداقات مهمة مع قادة كبار في المشرق في ذلك الوقت، فكان الحاج أمين الحسيني مفتي القدس صديقه الشخصي، وحظي بمكانة خاصة عند رئيس الوزراء العراقي حينها "رشيد عالي الكيلاني"، الذي كان على علاقة طيبة بألمانيا النازية، في مرحلة بدايات الحرب العالمية الثانية، وكذلك كان على صلة طيبة بالكاتب اللبناني شكيب أرسلان، الذي فتح له أبواب العلاقة مع الألمان.
وتوالت نجاحات يونس بحري في إقامة الصلات المهمة، حتى إنه نسج صداقة مع الفريق "بكر صدقي"، وهو ضابط عراقي نفذ أول انقلاب عسكري في تاريخ الدول العربية بعد انسحاب العثمانيين.
كان الانقلاب عام 1936 في زمن الملك غازي، لا يستهدف العائلة المالكة، بل تشكيلة الحكومة ورئيس وزرائها فقط، ونجح في انقلابه، وأسقط الحكومة، ويدّعي يونس بحري في مذكراته أنه هو من أقنع بكر صدقي بتنفيذ الانقلاب، بحسب ما نقل عنه المؤرخ العراقي "محمد سعيد الطريحي".
وتمكّن يونس أيضاً من إقامة صداقة خاصة مع الملك العراقي "غازي"، والذي كان طموحاً وأراد تحريض الشعب على الثورة ضد البريطانيين، فأسس إذاعة تبثّ من قصره "قصر الزهور"، فعمل يونس بحري فيها مذيعاً.
وحين توفي الملك غازي، إثر اصطدام سيارته بعمود كهرباء في عام 1939، أصدر يونس بحري جريدته "العقاب"، وكانت صفحتها الأولى متشحة بالسواد، وجاء العنوان "مقتل الملك غازي".
وفي المقال اتهم يونس بحري البريطانيين صراحة بقتل الملك، فهاج الشارع العراقي، وخرجت مظاهرات أدّت إلى مقتل القنصل البريطاني العام في الموصل.
فلاحقه الإنجليز، ولكن علاقته مع الكيلاني وأمين الحسيني سهلت له العلاقة مع الألمان، فأصدرت له السفارة الألمانية في بغداد جواز سفر خاصاً، وغادر إلى برلين.
صديق هتلر الذي أقنعه ببث آيات القرآن من برلين
استقر يونس بحري في برلين، وبسبب علاقاته السابقة استطاع التقرب من وزير الدعاية النازية "غوبلز" ولقاء الزعيم النازي هتلر، حتى أصبح يونس يحضر التجمعات والاحتفالات النازية وهو يرتدي الزي العسكري وشارة النازية في ذراعه.
ثم جاءت فكرة تأسيس إذاعة برلين العربية، عندما شرح يونس بحري الفكرة لوزير الدعاية "غوبلز" الذي رحب بها لتكون المحطة المواجهة لمحطة بي بي سي البريطانية الناطقة باللغة العربية، بعد أن أقنعه يونس بحري بجدوى الإذاعة التي ستحفز العرب وتزيد من كرههم لبريطانيا.
وبحسب مذكرات يونس بحري، فقد طلب من غوبلز الموافقة على بث القرآن الكريم، في "إذاعة برلين العربية"، من أجل جذب المستمعين العرب لإذاعة برلين فيبدأ به إرسال الإذاعة، تردد غوبلز في البداية وأوصل المقترح إلى هتلر الذي وافق عليه، بعد أن شرح له يونس بحري أن بث القرآن الكريم سيجذب انتباه المستمعين العرب، ويدفعهم للعزوف عن الاستماع للبي بي سي التي كانت لا تذيع القرآن، فكانت النتيجة أن كانت إذاعة برلين هي المفضلة عند العرب، وما هي إلا أشهر قليلة وبدأت البي بي سي ببث آيات القرآن بالمثل.
اشتهر يونس بحري بعبارته الافتتاحية الشهيرة "هنا برلين حيّ العرب"؛ حيث كانت بمثابة شارة افتتاح برامج الإذاعة التي كانت تهدف إلى مهاجمة قوات التحالف وتوعية الجماهير العربية بخطر الاستعمار، ويبشرها بالحرية على يد قوات هتلر النازية.
وكان كثيراً ما يخرج عن نهج المحطة بشتمه لملوك مصر والعراق واتهامهم بالعمالة والعبودية، وكان يخص الوصي على العرش في العراق الأمير "عبد الإله" بالقسم الأكبر من شتائمه، وكذلك رئيس الوزراء العراقي حينها "نوري السعيد" والملك "عبد الله" في الأردن.
وبعد أن كان العامل الرئيسي في نجاح الإذاعة، واستحوذ على آذان المستمعين العرب في كل مكان، قرر مفتي القدس أمين الحسيني، الذي كان تربطه علاقة بالنظام النازي، إخراج يونس بحري من الإذاعة، لأنه لم يكن يلتزم بنصوص البيانات والتعليقات التي كان يعدها المكتب العربي في القدس، ويرسلها للإذاعة، فقد كان يونس بحري ينفعل ويضيف عبارات قاسية غير مكتوبة في النص.
عاش كالأمراء ومات فقيراً
عاد يونس إلى العراق بعد أن حصل على عفو من الحكومة العراقية وملكها، وعاصر الانقلابات العسكرية في العراق، وكان يتقلب بين مؤيد ومعارض لقادتها، وفي حياته سجن عدة مرات وحكم عليه بالإعدام غيابياً أكثر من مرة.
ولكنه كان يهرب بمساعدة معارفه وأصدقائه من الزعماء والقادة، أو كان يحصل على عفو بمساعدتهم.
قضى يونس بحري ما تبقى من عمره في بيت أحد أصدقائه، وبعد أن كان صديقاً للقادة والرؤساء، مات في بغداد معدماً فقيرا وحيداً، لم يجد من يدفنه، ودفنته أمانة العاصمة، بمقبرة الغزالي في مارس/آذار عام 1979، تاركاً خلفه الكثير من المؤلفات والمقالات الصحفية.
يدور النقاش والجدل حول أحداث وحياة يونس بحري، وربما تكون الكثير من الأحداث التي ذكرها يونس في مذكراته أو حكيت عنه، مجرد مبالغات كتبها بنفسه أو كتبها عنه آخرون، أضافوا عليها تفاصيل لم تحدث.
ومع هذا توجد الكثير من الصور والوثائق التي تؤكد علاقاته بالزعماء والقادة حول العالم، والأكيد لو أن ربع ما قيل عنه صحيح فقد كان فعلاً شخصية استثنائية.
ومع هذا يوجد الكثير من الصور والوثائق التي تؤكد علاقاته بالزعماء والقادة حول العالم، والأكيد لو أن ربع ما قيل عنه صحيح فقد كان فعلا شخصية استثنائية.