في أرض خالية سوى من بعض الأشجار التي زُرعت كما يبدو لإخفاء معالم تلك الجريمة التي ارتكبت خلافاً لقانون الحرب، تقع تلك المقبرة الجماعية السرية التي تضم جثث 80 جندياً مصرياً قتلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي قبل 55 عاماً.
تقع هذه الأرض في منطقة دير اللطرون بمدينة القدس المحتلة، وتنتشر فوقها بعض أشجار اللوز، بالإضافة إلى وجود معرض يبدو كمتحف يعرض صوراً لأبرز المواقع في إسرائيل، جرى إنشاؤه منذ حوالي 10 سنوات.
(العلامة الحمراء تشير إلى المعرض الإسرائيلي المقام فوق الأرض التي يقع فيها القبر الجماعي)
وطوال نحو 5 عقود مرت على الحادثة إلا أن تفاصيل الواقعة، وسبب وجود هذه المقبرة الجماعية، وعدم الإعلان عنها، بقيت محاطة بسرية تامة بأمر من الرقابة العسكرية الإسرائيلية، إلى أن سمحت أخيراً لصحفيين ومؤرخين بالنشر وكشف تفاصيل ومعلومات عن هذه المقبرة الجماعية.
كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أثار قضية المقبرة الجماعية، في اتصال هاتفي مع الجانب الإسرائيلي.
المقبرة الجماعية للجنود المصريين
كان أول من نشر عن وجود هذه المقبرة المؤرخ الإسرائيلي يوسي ميلمان عبر سلسلة تغريدات، كشف فيها عن أن أكثر من 20 جندياً مصرياً أُحرقوا أحياء، ودفنهم الجيش الإسرائيلي في مقبرة جماعية لم يتم وضع أي علامات عليها، في مخالفة لقوانين الحرب.
في المقابل، ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أن المقبرة الجماعية تضم رفات 80 جندياً مصرياً.
قصة المقبرة الجماعية
يقول المؤرخ الفلسطيني عادل مناع لـ"عربي بوست" إن الواقعة تعود للحرب التي نشبت بين الجيوش العربية وإسرائيل عام 1967.
فقد أرسلت مصر باتفاق مع الأردن فرقتي قوات خاصة "كوماندوز" إلى منطقة دير اللطرون غرب مدينة القدس، لمساندة الجيش الأردني في الدفاع عن تلك المنطقة التي كانت تحت سيطرة أردنية آنذاك، في محاولة لاختراق الحدود الإسرائيلية من جهة مطار اللد القريب من المنطقة.
ووفق التسلسل التاريخي للأحداث في تلك الفترة، أوضح أن الجنود المصريين وصلوا قبل اندلاع حرب 1967، والمعروفة باسم "النكسة" عن المصريين، بشهر تقريباً، أي في شهر مايو/آيار 1967، لافتاً إلى أن الفرقة لم تكن معها مدرعات أو دبابات، بل كانت مجرد فرقة مشاة، وهو ما يفسر استشهاد هذا العدد الكبير منها.
كما تشير التحليلات إلى أن القوة المصرية لم تتأقلم مع المنطقة، ولم يكن لديها تعزيزات عسكرية؛ لذا وقعت في فخ النيران التي اشتعلت في الأحراش من حولها، وحاصرتها حتى استشهد الجنود.
وأشار مناع إلى أن ما تم الكشف عنه هو قبر جماعي تم دفن الجنود جميعاً داخله وليس مقبرة، فالمكان لا يحتوي على أي علامات أو شواهد.
وأوضح أن المعلومات الواردة تشير إلى وقوع معركة في هذه المنطقة القريبة جداً من دير اللطرون، وهي منطقة محرمة (ممنوع دخولها من الطرفين) بين الأردن وإسرائيل منذ عام 1948، وتقع على مقربة من القرى الفلسطينية الثلاث؛ عمواس وبيت نوبا ويالو، وهي قرى دمرها الاحتلال الإسرائيلي وهجر سكانها بالكامل.
وحول ظروف استشهاد الجنود المصريين، قال مناع إنهم قتلوا ودُفنوا بطريقة بشعة؛ إذ نشبت حرائق حولهم من كل الجهات بسبب نيران القذائف الإسرائيلية وماتوا حرقاً، فيما أصيب البعض بالقذائف الإسرائيلية.
جرى بعد ذلك دفن الجنود بسرعة وبشكل عشوائي دون إعلام السلطات المصرية، فيما تم زرع شجر اللوز فوق القبر لإخفائه، وقبل نحو 10 سنوات أقيم معرض أشبه بمتحف فوق القبر.
لماذا تكتمت إسرائيل لأكثر من 5 عقود؟
في أعقاب الكشف، ذكر موقع "تايمز أوف إسرائيل" أن مكالمة هاتفية جرت بين رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وعد خلالها لابيد بفتح تحقيق حول ظروف الحادثة.
كما أصدرت وزارة الخارجية المصرية بياناً صحفياً، عقب نشر التقرير في وسائل الإعلام الإسرائيلية، أكد فيه المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، السفير أحمد حافظ، أن "السفارة المصرية في تل أبيب كلفت بالتواصل مع السلطات الإسرائيلية لتقصي حقيقة ما يتم تداوله إعلامياً، والمطالبة بتحقيق لاستيضاح مدى مصداقية هذه المعلومات وإفادة السلطات المصرية بشكل عاجل بالتفاصيل ذات الصلة".
وأرجع مناع التكتم الإسرائيلي إلى سعي الجانب الإسرائيلي حينها لعدم المس بالعلاقات مع مصر، خاصة بعد عقد الأخيرة اتفاق سلام مع إسرائيل عام 1977.
وقال إن المحادثة الهاتفية جاءت لإظهار اهتمام بهذا الموضوع كي لا يُساء استغلاله ضد إسرائيل أو ضد مصر، لافتاً إلى وجود مطالبات بإقامة نصب تذكاري على الأقل لهؤلاء الجنود.