يقوم جوهر الفعل السياسي على القوة، ولا سياسة دون قوة، ولكي ندرك ذلك بشكل سريع لنا أن نتساءل: لماذا تحكم الولايات المتحدة الأمريكية أجزاءً كبيرة من العالم؟ ولماذا تحكم غالبية الجيوش العربية شعوبها؟ ولماذا سقطت أنظمة منتخبة لتحل مكانها ديكتاتوريات قاتلة؟ ولماذا ينجح زعيم لا يحظى بأي تأييد شعبي، وتكاد تُجمع الغالبية على فرط غبائه، في فرض سيطرته على شعبه لثلاثين عاماً متوالية؟ لا جواب لذلك إلا فارق القوة.
وحتى أعتى الديمقراطيات لا يمكن أن تضمن استقراراً إلا إذا تمتعت بقوة كبيرة، تستخدمها وفق القانون لمواجهة أي محاولة داخلية أو خارجية لوأدها، أو ابتزازها، وأي فائز في الانتخابات لا يمكن أن يضمن استقرار حكمه دون قوة تحميه، سواء قوة مؤسسات الدولة الخاضعة للقانون، أو قوة الجماهير المؤيدة له، أو قوته الذاتية، التي قد تخضع للقانون، أو تتجاوزه.
وأحد أسرار فشل الثورات العربية، وإخفاق تجارب النهضة، هو المثالية العالية التي تنكر الحقيقة السابقة، أو تحاول التقليل من شأنها، مستندة إلى أوهام من قبيل السلمية التامة وعدم التحرك في أي مسارات قوة.
ما هي القوة التي تضمن فعلاً سياسياً ناجحاً؟
عند البحث في تعريف القوة وجدت تركيزاً كبيراً على فكرة أن القوة هي القدرة على التأثير، وبالتالي تتسع أدوات القوة أو أشكالها، لتشمل كل ما يؤثر في الآخرين، ويوجههم نحو ما يريد الفاعل السياسي، فخطيب الجمعة الناجح في هذا السياق نوع من أنواع القوة؛ لأنه يملك التأثير في الآخرين، وكذلك المال قوة؛ لأننا من خلاله نملك التأثير والتوجيه، وكذلك امتلاك الجيوش المتطورة قوة؛ لأننا نؤثر من خلاله في الواقع جزئياً أو كلياً، وكل تلك مجرد أمثلة بسيطة لأشكال متعددة من القوة، هي قوة الإقناع، وقوة الإغراء، وقوة الإكراه.
لكن الحقيقة أن اختصار القوة في القدرة على التأثير يظل قاصراً، أو -على الأقل- غير واضح بالجلاء الكافي، في حال قمنا بتوسيع مفهوم التأثير إلى أبعد مدى ممكن، ذلك أن القوة من وجهة نظري هي: القدرة على حماية الذات من الزوال الدائم، أو التغييب المؤقت، أو الضرر، أو الخضوع للآخرين.
ذلك أن أهم أهداف الفاعل السياسي؛ دولة أو جماعة، ضمان عدم الزوال، ولا يمكن لأحد ضمان عدم زواله إلا إذا امتلك من أدوات القوة ما يُمكّنه من التأثير في سلوك الآخرين ليكونوا عاجزين أو غير راغبين في إزالته، أو العدوان عليه، خوفاً أو طمعاً، أي نتيجة لقدرته -بالدرجة الأساسية- على ردعهم، أو قدرته على الإضرار بمصالحهم، أو تعزيزها.
لكننا يمكن أن نوسع هذا المفهوم بشكل أكبر إذا اعتبرنا ضمان عدم الزوال هدفاً أساسياً أو مصلحة عُليا تقف على رأس سلسلة طويلة من الأهداف أو المصالح الخاصة بأي فاعل سياسي، ليكون تعريف القوة: القدرة على تحقيق الأهداف والمصالح وحمايتها.. والتي يمكن التعرف عليها من خلال فهم واجبات الدولة، وهي الحماية والرعاية، الحماية من الخطر الخارجي، أو الداخلي كالجريمة، والحرب الأهلية، وتغول أجهزة الدولة، والرعاية المادية بتوفير احتياجات المواطنين من طعام وشراب ولباس ومسكن وعلاج، أو المعنوية بتوفير العلم والمعرفة، وتنمية الأخلاق، وتطوير الذوق من خلال الفن والأدب.
وكل ما سبق متشابك بشكل كبير؛ لأن غالبية تلك المصالح التي تهدف القوة لتحقيقها وحمايتها، هي في ذاتها تعزيز للقوة وتطوير لها، فأهم هدف لأي دولة في الحالة السابقة هو تعزيز قوتها لضمان تحقيق أكبر كم ممكن من مصالحها.
ويمكن تقسيم مصالح الدول في الغالب إلى ثلاثة مستويات هي: ضمان البقاء المادي، والتفوق الاستراتيجي على الخصوم الفعليين أو المتوقعين، وضمان أعلى درجات الرفاه لعموم المواطنين، وضمان نشر القيم والأفكار التي قد تتبناها تلك الدول، وكلما تعززت قدرة تلك الدول على فعل ذلك، كان هذا تعبيراً عن قوتها أو انعكاساً لها.
إضافة إلى ما سبق يمكن اعتبار القوة: القدرة على تنفيذ القرارات، باعتبارها ترجمة للأهداف والمصالح الممكنة في ظل معطيات الواقع.
أشكال القوة
ويبقى السؤال المهم: ما أشكال القوة التي تضمن الحماية أو التأثير أو تحقيق المصالح، أو تنفيذ القرارات، أهي القوة الصلبة (قوة السلاح)، أم القوة الناعمة، أم الاقتصادية، أم القوة الذكية، أم العلاقات والتنظيم والنفوذ، أم خلطة من كل ذلك؟
الحقيقة أن شكل القوة المطلوب يختلف باختلاف أهداف الفاعل السياسي وظروفه، فالقوة اللازمة لحزب سياسي في ديمقراطية عريقة يختلف اختلافاً كبيراً عن القوة اللازمة لفاعل سياسي في دولة تسودها الفوضى، أو بلد محتل، وتختلف أيضاً عن تلك اللازمة لدولة تطمح لأن تكون قطباً إقليمياً، عن اللازمة لأخرى تقبل الوقوع تحت حماية قوى عالمية كبرى، وهكذا.
ولكن بشكل عام لا يمكن تصور أن شكلاً واحداً من أشكال القوة كافٍ، بل لا بد من المزج بين أشكال متعددة منها، وصياغة خلطة منها يعزز بعضها بعضاً، بدءاً من نقاط القوة الطبيعية كالموقع الجغرافي، والطاقات البشرية، والموارد الطبيعية، مروراً بالقوة العسكرية الصلبة، والقوة الاقتصادية، والقدرة على الإنتاج، والتماسك الداخلي، والإيمان العقائدي، والتأييد الجماهيري، والتأثير الإعلامي والأيديولوجي، والعلاقات، والتحالفات، والنفوذ.
كل تلك من أشكال القوة، لكن منتهى الوهم تصور أن أياً منها يمكن أن يحل بديلاً عن القوة العسكرية الصلبة، ففي أي مواجهة تظل القوة الصلبة قادرة على فرض إرادتها، حتى وإن كانت أقل ذكاءً ككثير من الأنظمة العربية، أو أضعف مالياً كالنجاح الإيراني في مواجهة الحصار الغربي، أو أضعف جماهيرياً وأقل قدرة على الإقناع كالديكتاتوريات في مختلف أنحاء العالم.
صحيح أنه في بعض الأحيان تؤدي فقدان القدرة الاقتصادية إلى سقوط الأنظمة رغم قوتها، إلا أن هذا لا يحدث إلا في حالات قليلة جداً، منها: العجز التام عن توفير أدنى حد من متطلبات المواطنين، وهذا نادر الحدوث إلا في حالة الغباء الشديد، أو أن تمسّ الأزمة الاقتصادية بالمكونات البشرية لتلك الأنظمة ونواتها الصلبة، بحيث يصبح زوالها مصلحة لمكوناتها البشرية، وذلك ما جرى في بعض الأنظمة التي سقطت في الربيع العربي، بل كان ذلك أساساً سبب سقوط ذلك البعض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.