صحيح أنها دولة إفريقية، وكانت هي أول بلد مسلم يلغي العبودية سنة 1846 خلال "حُكم البايات"، إلا أن تونس بعد أكثر من قرن ونصف من إلغاء الرقِّ فيها، لا تزال أصداء العنصرية العميقة تضرب في عمق مجتمعها تبعاً للون البشرة.
وكل آونة تظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام حوادث اعتداء جديدة ذات طابع عنصري ضد المهاجرين والمواطنين من ذوي البشرة السوداء في تونس، بعد أن كان يلفها الغموض والتشويش لسنوات طويلة، الأمر الذي يجعل من المهم الوقوف والنظر في أسباب مشكلة العنصرية في تونس وتداعياتها اليوم.
تاريخ إلغاء الرق والعبودية في تونس
منذ القرن العشرين، لم تكن أزمة العنصرية مُعلنة أو قابلة للنقاش من الأساس في تونس، سواء على المستوى الرسمي أو الإعلامي.
فقد سبقت تلك الدولة جميع البلدان العربية، وحتى الكثير من الدول الغربية الكبرى، على رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، في إلغاء قانون الرق.
وبحسب وكالة الأناضول للأنباء، تم إقرار هذا المرسوم الثوري التقدُّمي من قِبَل أحمد باشا باي، عاشر البايات الحسينيين للدولة سنة 1846، أي قبل فرنسا التي ألغته نهائيًا سنة 1848 وقبل الولايات المتحدة الأمريكية التي تسبب إلغاء العبودية فيها إلى اندلاع حربٍ أهلية.
وبذلك كانت تونس أول دولة في العالم تلغي العبودية والرق بوثيقة رسمية. متقدمة على الولايات المتحدة التي كانت تشهد نزاعات أهلية بين ولايات الشمال بقيادة الرئيس أبراهام لينكولن، وولايات الجنوب، بقيادة جيفرسون ديفيس، المعارضة لحملة لينكولن الساعية إلى تحرير "العبيد".
وقبل إلغاء الرق وعتق العبيد في تونس بسنوات، أصدر أحمد باي الأول في 6 سبتمبر/أيلول 1841، مرسوماً يمنع الاتجار في الرقيق وبيعهم في الأسواق، بل وهدم الدكاكين الخاصة بتلك التجارة.
وفي ديسمبر/كانون الأول 1842، أصدر أمراً يعتبر "من يولد على التراب التونسي حراً ولا يُباع ولا يشترى"، وفقاً للأناضول. ثم أصدر أمراً يقضي بعتق جميع العبيد في البلاد وإبطال العبودية نهائياً في 23 يناير/كانون الثاني عام 1846.
انكشاف "سوءة" العنصرية بعد الثورة التونسية
ومع ذلك، اتضحت حقيقة العنصرية في التونس بحلول 14 يناير/كانون أول 2011 مع اندلاع الثورة، إذ تفاجأ الرأي العام في تونس بتحقيق تلفزيوني بإحدى المحطات الخاصة في 2012، كشف عن شكاوى أفراد الأقلية السمراء في البلاد بوجود تمييز حاد ضدهم.
وطرح ذاك التحقيق لأول مرة في تونس على العلن تساؤلات حول ما إذا كان التمييز العنصري مستفحل في الدولة، أم أنها مجرد حوادث فردية.
خاصة وأن الأفراد الذين وقع عليهم التمييز العنصري اشتكوا من إقصائهم حتى في قطاعات التشغيل الرسمية في الدولة، بحسب الوكالة الألمانية دويتشه فيلله (DW).
مصطلحات وتسميات خاصة بـ"سود البشرة"
إضافة للتمييز العنصري المنتشر على المستوى الشعبي بالنظر إلى الألقاب التي يتم إطلاقها على السود، والتي لا تخلو من عنصرية واضحة مثل كلمات "وصيّف" و"كحلوش" وغيرها، فهي تمتد على المستوى العام أيضاً، إذ لم يحتل شخص أسود البشرة أي منصب سياسي قط في تاريخ الدولة الحديثة.
و"الكحلوش" عبارة عنصرية فيها احتقار لأصحاب البشرة السوداء، وهي موروثة من عهود العبودية تقريباً.
ورغم أن أصحاب البشرة السمراء يشكلون قرابة 15% من المجتمع التونسي والذي يقدر تعداده بـ11.8 مليون نسمة بحسب موقع Data Commons للتعداد السكاني، إلا أنهم نادراً ما يتولَّون مناصب حكومية ومؤسساتية كبيرة.
إقصاء سياسي واضطهاد مجتمعي
وحول تكافؤ الفرص بين المواطنين السود والبيض في تونس على المستوى المهني والسياسي، تشير دراسة أجراها الباحثان التونيسان مها ومنصور الحمروني عام 2018، بعنوان: "حركة الشباب السود لمناهضة العنصرية في تونس بعد ثورة 14 يناير 2011″، أن العنصرية في تونس ضد ذوي البشرة السوداء حقيقية.
ويشير البحث إلى وجود كفاءات من السود الناجحين أكاديمياً ومهنياً ولكنهم يفشلون في التمركز في أماكن القرار السياسي والريادة الاقتصادية والاجتماعية بسبب تواصل التمييز العنصري، بحسب مجلة Vice.
وقد صرَّح شباب للمجلة يعملون في مهن متنوّعة بأن بعض المواطنين البيض يرفضون التعامل معهم بلا أسباب سوى لون بشرتهم، ويعانون الرفض المستمر في موضوع الزواج.
كما سُجِّلت عدّة حالات لمواطنين ومهاجرين من السود الذين تحدَّثوا عن اضطهاد وأعمال عنف وشتائم عنصريّة ضدّهم من طرف جيرانهم البيض؛ ما يعكس صورة في غاية السوداويّة لعلاقات العرقيات المختلفة داخل المجتمع التونسي.
الفصل في الحياة والموت أيضاً
صحيح أن الموت لا يفرق بين البشر؛ ولكن بالنسبة للمواطن أسمر البشرة، فإن العنصرية في تونس ستُرافقك إلى القبر.
ويشير تقرير نشره موقع فرانس 24 إلى أن هناك مثلاً مناطق داخلية في تونس تشهد فصلاً عنصرياً فادحا في المقابر، حيث يتم التفريق بين قبور الموتى البيض والسود، مثل تلك المتواجدة في جزيرة جربة بتونس؛ وفيها يدفن السود موتاهم في مقبرة منفصلة عن تلك التي يدفن فيها ذوو البشرة البيضاء.
كما سبق وتناقلت وسائل إعلام محلية ودولية مشاهد تسلط الضوء على العنصرية في تونس، من خلال تخصيص حافلة لنقل السود وأخرى للبيض في كلّ من منطقة القصبة وسيدي مخلوف.
ويأتي ذلك بعد تكرار حوادث التشاحُن والاعتداءات اللفظية والجسدية بين الطرفين -السود والبيض- على أساس عنصري قِبلي، وهو ما دفع الدولة بصورة غير رسمية إلى التفرقة حتى في ركوب الحافلات من أجل تجنّب هذه المشاحنات اليومية وتداعياتها.
غالبية "السود" المهاجرين في تونس يعانون الاضطهاد
في استطلاع للرأي صدر عام 2020، أعده المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وحمل عنوان "من دول جنوب الصحراء الإفريقية إلى تونس.. دراسة كمية لوضعية المهاجرين"، جاء فيه أن 61% من المهاجرين الأفارقة القادمين من دول جنوب الصحراء والمقيمين في البلاد، يعتبرون التونسيين عنصريين بشكل جلي في البلاد.
وأبرزت الدراسة، وهي عبارة عن استبيان شمل عينة عشوائية تتكون من 962 مهاجراً ومهاجرة من دول إفريقيا جنوب الصحراء، أن 51.1% من المشاركين قالوا إنهم تعرضوا لممارسات عنصرية وكراهية.
وتتمثل الممارسات العنصرية في تونس من هذا النوع في العنف بأنواعه والتحايُل والابتزاز.
كما أشارت الدراسة وفقاً لصحيفة العرب اللندنية، إلى تعرض المهاجرين للعنف المؤسساتي الذي تقوم به الدولة بصورة رسمية ممنهجة، بما في ذلك مراكز الأمن ومكاتب الاستقبال، فضلاً عن المؤسسات الخاصة ورؤساء العمل والموظفين وغيرهم على كافة المستويات.
وحدّدت الدراسة الأماكن التي تتم فيها الممارسات العنصرية في تونس ضد المهاجرين السود بشكل خاص، إذ تكثر هذه السلوكيات في الأماكن العامة ولاسيما الشارع بنسبة 92.8%، وبدرجة أقل في الفضاءات التجارية بنسبة 25%.
وأضافت أن أماكن هامة مثل المستشفيات، يتعرض فيها المهاجرين من ذوي البشرة الداكنة بنسبة 6.5% والجامعات بنسبة 5.5% ومقرات المنظمات الدولية بنسبة 3.3%. بينما في المرتبة الأخيرة عيادات الأطباء الخاصة بنسبة 1%، وفقاً للدراسة.
الأسباب الكامنة وراء بداية تلك الظاهرة
لا تقتصر ظاهرة العنصرية في تونس على حالات ممنهجة نتيجة الجهل أو قلة الوعي العام، بل إن لها جذور سياسية منذ السنوات الأولى للاستقلال.
وبحسب تقرير لموقع ساسة بوست بعنوان "مقابر وحافلات منفصلة للسّود.. الوجه القبيح للعنصريّة في المجتمع التونسي"، يرجع تهميش مناطق الجنوب، ذات التمركزات لذوي البشرة السمراء، إلى عهد الحركة اليوسفيّة بقيادة المناضل صالح بن يوسف التي كانت مُعارضة لحُكم الرئيس بورقيبة واتّخذت من الجنوب مركزًا لنشاطها المُعارض.
وهو ما جعل الرئيس بورقيبة يحرم الجنوب من المشاريع التنموية كـ"عقاب سياسي"، وفقاً للموقع.
هذا التهميش واصل التفاقُم في عهد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي؛ الذي رأى في الجنوب معقلاً لخصومه الإسلاميين، وفقاً لتصريحات سابقة لرئيس بلدية الحامة الواقعة بالجنوب التونسي لموقع الجزيرة.نت.
الأمر الذي أدى إلى تفاوت في التنمية ونسب البطالة بين الجنوب المتردية أوضاعه، والشمال المُستفيد بشكل أكبر نسبيًا من عائدات السياحة التي تخلق مناصب ووظائف ومستوى معيشي أعلى.
مساعٍ محدودة على الطريق الصحيح
ولتناول هذه التداعيات، اتخذت السلطة التونسية بعد الثورة قانوناً وُصف بالتاريخي في هذا السياق، وعدّه الكثيرين خطوة على الطريق الصحيح؛ إذ تبنّى البرلمان في 2018 قانوناً ينص على "محاربة كل تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو الأصل القومي أو النسب أو غيره من أشكال التمييز العنصري".
وتتراوح عقوبة الإدلاء بكلام عنصري في تونس بين شهر وسنة سجن، بالإضافة إلى غرامة مالية قد تصل إلى ألف دينار تونسي، أي أكثر من 300 دولار أمريكي، بحسب فرانس 24.
كما يعاقب بالسجن من عام إلى ثلاثة أعوام وبغرامة مالية من ألف إلى ثلاثة آلاف دينار تونسي (أكثر من ألف دولار) كل من "يحرض على العنف والكراهية والتفرقة والتمييز العنصري، وكل من ينشر أفكاراً قائمة على التمييز العنصري أو تكوين مجموعة أو تنظيم يؤيد بصفة واضحة ومتكررة التمييز العنصري أو الانتماء إليه أو المشاركة فيه.
ومع ذلك، يبدو أن الطريق لا يزال يحتاج إلى الكثير من الجهد، وعلى كافة الأصعدة والمجالات في الدولة والمجتمع لتصويب الأزمة.
تقول النائبة السابقة في البرلمان التونسي جميلة دبش كسيكسي، التي تعرضت مراراً لحملات ومضايقات بسبب لون بشرتها، في تصريحات صحفية عام 2020: "لن نستطيع محو عار العنصرية في تونس إلا بالاعتراف والشجاعة في التصدي لتلك الأفكار أين ما وجدت، فلا خير في بلاد يحس فيها صنف من البشر أنهم أنصاف مواطنين".
واختتمت بقولها: "نحن في حاجة إلى شن حرب حقيقية على التمييز بكل أشكاله، وأن ننتصر لكرامة وحرمة الذات البشرية" في المقام الأول.