احتفلت الجزائر يوم الثلاثاء، 5 يوليو/تموز 2022، بالذكرى الـ60 لاستقلال البلاد عن فرنسا، بعد استعمار دام 132 سنة، وحرب تحريرية استمرت 7 سنوات ونصف السنة، ودفع ثمنها قرابة مليون ونصف المليون شهيد.
انطلقت حرب التحرير الجزائرية يوم الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، ثم وبعدما بدأت بوادر النصر العسكري والسياسي تلوح في أفق سماء البلد العربي لصالح جبهة التحرير الوطني والشعب الجزائري ظهرت حركة إرهابية فرنسية، أطلقت على نفسها اسم "منظمة الجيش السري"، ويرمز لها بالحروف اللاتينية بـ"OAS".
وتشكلت تلك المنظمة السرية من المستوطنين الأوروبيين الأكثر تطرفاً، الداعمين لشعار "الجزائر فرنسية"، فقامت بالعديد من الاغتيالات والتفجيرات الدموية، فذهب ضحيتها أكثر من 2000 قتيل بالجزائر و71 بفرنسا.
تأسَّست بإسبانيا وقادها الجنرالات المعارضون لديغول
تأسست منظمة الجيش السري رسمياً يوم 11 فبراير/شباط 1961، بالعاصمة الإسبانية مدريد، ولكن تحركات نشطائها كانت قد بدأت قبل عام واحد من ذلك التاريخ، إذ قام من يُسمون بـ"الأقدام السوداء"، أي السكان الأوروبين للجزائر، بمظاهرة يوم 24 يناير/كانون الثاني 1960 بوسط الجزائر العاصمة، تنديداً بإبداء رئيس الجمهورية الفرنسية، الجنرال شارل ديغول، في نوفمبر/تشرين الثاني 1959، استعداده للدخول في مفاوضات سياسية مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية، حول شروط وقف إطلاق النار واعترافه بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم.
وقد رُفع في تلك المظاهرة شعار "الجزائر فرنسية"، ودخل المتظاهرون خلالها في صدامات قوية مع رجال الشرطة، ما أسفر عن مقتل 14 فرداً من قوات الأمن الفرنسية و8 مدنيين.
وتم اعتقال الكثير من المتظاهرين الذي أدينوا بتهمة التمرد مثلما أدين أيضاً غيابياً بعض المقربين من اليمين المتطرف الفرنسي، بتهمة قيادة ذلك التمرد، كبيار لاغايارد وجان جاك سوسيني، اللذين لجآ إلى إسبانيا، التي كانت تحت حكم الديكتاتور الجنرال فرانكو.

فقام لاغايارد وسوسيني إذاً بتأسيس منظمة الجيش السري، يوم 11 فبراير/شباط 1961، وظهرت شعاراتها المتطرفة على جدران الجزائر العاصمة، في شهر أبريل/نيسان من نفس السنة، والتي تقول: "الجزائر فرنسية وستبقى كذلك" و"منظمة الجيش السري تضرب أين ما تريد ومتى تريد ومن تريد".
وتزامن ظهور الشعارات التهديدية لمنظمة الجيش السري مع محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي قام بها "جنرالات فرنسا" على الرئيس شارل ديغول، في ليل 21 إلى 22 أبريل/نيسان 1961، والتحق بعدها الانقلابيون بالمنظمة المحظورة، وتم تعيين الجنرال راؤول سالان رئيساً لها.
وكان انضمام الضباط العسكريين المتمردين إلى المنظمة السرية بمثابة دعم نوعي كبير، مثلما أكده المؤرخ الفرنسي ألان روسيو في كتابه "القصة غير المنتهية لمنظمة الجيش السري"، حين كتب: "انضم الانقلابيون إلى القادة المدنيين لمنظمة الجيش السري، أي جنود مخضرمون يعرفون كيفية القتال، لقد وفروا إطاراً منظماً للغاية وآلاف الأسلحة المسروقة من المستودعات العسكرية".
وكانت منظمة الجيش السري تركز عملياتها بالمدن الكبرى، وخاصة مدينتي الجزائر العاصمة ووهران، وإضافة لمئات التفجيرات التي قامت بها في الأحياء التي كان يقطن بها الجزائريون الأصليون، فإنها قامت أيضاً باغتيال العديد من الشخصيات الجزائرية كالكاتب المشهور مولود فرعون، يوم 15 مارس/آذار 1962، والشخصيات السياسية والأمنية الفرنسية التي تُعارض نظرة المنظمة المتطرفة لحرب الجزائر، على غرار محافظ الشرطة المركزي للجزائر العاصمة، روجيه غافوريه، الذي قُتل بمنزله يوم 31 مايو/أيار 1961.
لما انقلب السحر على الساحر
سعت منظمة الجيش السري للقيام بعمليات استعراضية بالأراضي الفرنسية لجلب اهتمام أكبر، والتعريف بمواقفها لدى الرأي العام المحلي، الذي لم يكن مبالياً كثيراً بها، ولكن كما يقول المثل "انقلب السحر على الساحر"، وذلك لما ارتكبت خطأً فادحاً عند تنفيذ إحدى عملياتها الإرهابية.
فقد حاولت المنظمة اغتيال أحد دعاة حق الجزائريين في تقرير مصيرهم، وهو وزير الثقافة الفرنسي أندريه مالتروا، وذلك من خلال تفجير شقته بإحدى البنايات بالعاصمة باريس، لكن المُكلفين بالعملية أخطأوا في الطابق الذي تقع فيه الشقة، وفجّروا شقة أخرى، فكان من بين ضحايا التفجير طفلة تبلغ من العمر 4 سنوات، تعرضت لإصاباتٍ خطيرةٍ وتشوهٍ كبيرٍ على مستوى الوجه، فظهرت صورتها على الصفحات الأولى لمعظم الجرائد، ما أدى في اليوم الموالي للعملية لخروج حوالي 20 ألف شخص إلى شوارع باريس للتنديد بالعملية الإرهابية، والتعبير عن سخطهم تجاه منظمة الجيش السري.

وكان معظم المشاركين في تلك المظاهرة من مناضلي الحزب الشيوعي الفرنسي، والمطالبين بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم، ولكن بما أنّ تجمعهم قد حدث خلال فترة حالة الطوارئ التي كانت تعيشها فرنسا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس ديغول، في أبريل/نيسان 1961، فإنّ قوات الأمن الفرنسية منعت المظاهرة وقمعتها بعنف كبير، ما أدى إلى وفاة 9 أشخاص، وهو الأمر الذي زاد من سخط الرأي العام الفرنسي تجاه منظمة الجيش السري، وحتى تجاه الحكومة الفرنسية، التي لم تكن تتعامل بحزم كبير مع نشاط أعضاء تلك المنظمة الإرهابية.
العمليات ازدادت عنفاً بعد "اتفاقيات إيفيان"
وشهد يوم 18 مارس/آذار 1962، حدثاً حاسماً في تاريخ الجزائر، بحيث تم التوقيع بمدينة إيفيان السويسرية على اتفاقيات بين الحكومة الجزائرية المؤقتة وممثلي الحكومة الفرنسية، سميت بـ"اتفاقيات إيفيان"، وتنص على وقف إطلاق النار بداية من يوم 19 مارس/آذار، وإقرار مرحلة انتقالية وإجراء استفتاء تقرير المصير، والذي جرى يوم 1 يوليو/تموز من العام نفسه، وأفضى إلى إعلان جبهة التحرير الوطني استقلال الجزائر يوم 5 يوليو/تموز.
أما منظمة الجيش السري فقد اتخذت من ذلك التاريخ، أي 18 مارس/آذار 1962، منعرجاً حاسماً لشن حربها الشاملة، تنديداً بتلك الاتفاقيات، وسعياً منها لوقف المسار المؤدي لاستقلال الجزائر، فزادت من عملياتها الإرهابية، خاصة في الأراضي الفرنسية، ومن بينها محاولة الاغتيال الفاشلة للجنرال ديغول، يوم 23 مايو/أيار 1962، وهي ثاني محاولة بعد تلك التي فشلت يوم 8 سبتمبر/أيلول 1961.
ورغم نجاح الأمن الفرنسي في إلقاء القبض على العديد من القادة البارزين لمنظمة الجيش السري، على غرار رئيسها الجنرال راؤول سالان، الذي اعتقل ببيته يوم 20 أبريل/نيسان 1962، فإنّ عملياتها الدموية تواصلت بشكلٍ مكثفٍ، خاصة بعد انضمام أفراد جدد من الأقدام السوداء.
ولعل أعنف العمليات تلك التي جرت يوم 2 مايو/ أيار 1962، عندما تم تفجير سيارة ملغمة بميناء الجزائر العاصمة، وذهب ضحيتها 60 قتيلاً من العمال الجزائريين، وحوالي مئة جريح، كما تم إحراق مكتبة الجامعة المركزية للجزائر العاصمة يوم 7 يونيو/حزيران 1962، وهو نفس اليوم الذي شهد تفجير 4 مدارس بمدينة وهران، إضافة لمقر البلدية ومكتبتها المركزية.
وبعد إعلان استقلال الجزائر عن فرنسا، يوم 5 يوليو/تموز 1962، توقف معظم أفراد الجيش السري عن نشاطهم العسكري، وانضموا للمجلس الوطني للمقاومة، وهي منظمة سياسية فرنسية غير معترف بها، تأسست يوم 20 مايو/أيار 1962، بالعاصمة الإيطالية روما من طرف سياسيين ومثقفين فرنسيين من دعاة "الجزائر فرنسية"، وذلك قبل أن تعلن عن حل نفسها، في مايو/أيار 1968، بعد العفو الرئاسي والجماعي من طرف الرئيس ديغول لمعظم نشطائها والقادة السابقين لمنظمة الجيش السري، ومن بينهم الجنرال راؤول سالان، الذي كان محكوماً عليه بالسجن المؤبد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.