من أنا اليوم؟ هذا هو سؤال الغربة، أي ذاك السؤال الأساسي والمحوري الذي يشغلك بصمت بعد سنوات طويلة في الغربة.
هو سؤال وجودي؛ لأنه لا يتعلق بشكليات الانتماء، بل بمضمون الشعور الباطني بالهوية، فلن تجيب عن تساؤلك أوراقك الثبوتية المخطوطة بالعربية، ولن يروي غليلك إقامة دائمة مكتوبة باللاتينية، ولا جواز سفرك الجديد.
من أنا؟ من أنا اليوم بعد مرور كل تلك السنوات عليّ فيما يسمى الغربة؟ وهل ما زال بإمكاني، في قرارة نفسي، تسمية هذه الأرض التي أعيش فيها بلاد الغربة؟ هل أنا اليوم من هنا، من بلاد الغربة؟ أم من هناك، من حيث أتيت منذ سنوات؟
هل من سبيل للاهتداء إلى معيار يحدد لي إن كنت اليوم من هنا أم من هناك؟
هل المعيار هو اللغة؟ ها أنا أكتب عن هنا، ولكن بلغة هناك، بلغتي الأمّ، بلغة قرآني ونبيّي، في حين أني غالباً ما أكتب عن هناك بلغة هنا، باللغة التي تعلّمت استعمالها بشكل أساسي للبحث والتفكير.
هل المعيار هو الاهتمامات السياسية اليومية؟ فشاشة جوالي تتناتشها إشعارات آخر الأخبار من هنا، وإشعارات الأخبار العاجلة من هناك.
هل المعيار هو الأصدقاء؟ فأغلبية أصدقائي المقربين هنا هم من هناك، كما أنّ حديثي هنا غالباً ما يكون مع أصدقاء يقرأون رسائلي على الواتساب هناك. أما أصدقائي الذين هم أباً عن جد من هنا، فغالباً ما ينتهي بنا المطاف بالحديث عن هناك. وأما عندما أكون بزيارة إلى هناك، فغالباً لا يدور الحديث إلا عن هنا.
هل المعيار هو المأكل والمشرب؟ فأمام حاسوبي الذي أطبع عليه هذا النص قطعة من خبز الباغيت من هنا، ولكن التي رششت عليها زعتر بلادي من هناك.
هل المعيار هو الذكريات؟ فلي أجملها هناك، ولكن لي أجملها هنا أيضاً، بعد أن مر عليّ زمن طويل هنا.
هل المعيار هو حيث يرنو الفؤاد؟ وما قلب المغترب غير مطار أشواق لهناك عندما يكون هنا، ولهنا عندما يقوم بزيارة لهناك؟
ما العمل؟ ما هو المعيار؟ وهل الشعور يعترف أصلاً بالمعايير العقلانية الباردة؟
فكثير من المغتربين يستطيعون الحسم في انتمائهم بين هنا وهناك، غالباً لصالح هنا، أوعلى الأقل يدّعون هذا الحسم، منشدين اقتباسات من التفكير الإيجابي، أو متلحفين برداء العقلانية الرِواقية البراغماتية الرزينة. هنيئاً لهم ذلك، ولكن ليس كل مغترب يستطيع حسم هذه المسألة، لا سيما بصدق وفي قرارة نفسه، فللقلب أسباب لا يفهمها العقل.
من أنا اليوم؟ في كل مرة ينتابني القلق الوجودي من هذا السؤال، ينتهي بي المطاف بالضحك على نفسي من خلال القول إني من هنا ومن هناك بنفس الوقت.
ولكن شعوري يقول إنني لست من هنا، وإنني لم أعد من هناك.
تائه بين الهُنا والهُناك، هذا أنا اليوم، إنسان يتخبّط في الانفصام الجغرافي بين عالمين، إنسان يعيش بنفس اللحظة في بلدين يبعدان عن بعضهما البعض آلاف الكيلومترات، إنسان غاضب على هنا وعلى هناك، إنسان حانق؛ لأنّ هناك ليس هنا، إنسان قلق؛ لأنّ هنا ليس هناك، أو بالأحرى إنسان يشعر بالذنب؛ لأنه يعيش هنا في حين أنّ هناك ليس بخير كَهُنا.
هذا أنا اليوم، إنسان تتملكه شيزوفرينيا المكان بين الهُنا والهناك كلما طال الزمن.
يكفي تبرّم في الأسئلة الوجودية لليوم، لا داعي للإطالة أكثر من ذلك.
أنهي هذه الكلمات وفيروز تنشد "سنرجع يوماً" على يوتيوب، وبأنه "ماَزال بين تلال الحنين، وناس الحنين، مكان لنا".
ولكن من هم اليوم، بعد مرور كل هذه السنوات، ناس الحنين، وأي هي تلال الحنين، يا فيروز؟
من يقول لنا، يا فيروز، إننا لو عدنا إلى هناك، لن يصبح ناس الحنين، من هم هنا؟
ومن يضمن لنا عندها، يا فيروز، أنه لن تصبح تلال الحنين هذه التي هي هنا؟
ومن يؤكد لنا أنه لو عدنا يوماً، لن تصبح إيديت بياف، وليس أنت يا فيروز، مطربة الحنين التي تؤنسنا في وحدتنا؟
لا تؤاخذيني يا فيروز، أطلت عليك الأسئلة، ولكن هذه هي حال المغترب، فالغربة سؤال مستمر عن الذات، يبقى غالباً دون جواب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.