لقد كان شأن الإسلام إكرام الأقليات، وحفظ حقوقها وإشراكها في الشأن العام فيما يخصّها ويخصّ مصائر الوطن الإسلامي، ففي أوّل قراءة لهذا الشأن ما ورد في الدستور السياسي، الذي وضعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ أعطى حقَّ المواطنة لليهود، فقال "وأنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم".
والأحاديث في حُرمة التعرّض لهم أو الانتقاص من حقهم واقع في أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث يقول "ألا مَن ظلم مُعاهِداً وانتقصه وكلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طِيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة".
إن غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية الحاضرة، وإن كانوا في الحقيقة من الأقليات، إلا أنهم يمكن أن يعدّوا مواطنين مثلهم مثل المسلمين، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، ولكن لا يعني ذلك بحال أن لغير المسلمين أي حق في أن يعطلوا إرادة الأغلبية المسلمة، أو أن يعترضوا على مبدأ إقامة دولة مدنية حديثة مرجعيتها الإسلام، وإنفاذ التشريعات الإسلامية، وإنّما عليهم أن يقبلوا بخيار الأغلبية، وليس في ذلك قهر أو إرغام لهم على قبول الإسلام كدين، ولا التنازل عن معتقداتهم السابقة، وفي الوقت نفسه ليس على المسلمين أن يتخلوا عن معتقداتهم وقوانينهم في سبيل إرضاء الأقليات غير المسلمة.
إنّ قيمة الشورى تتسع لسائر المواطنين في كلّ شأن عام يمسّ المصلحة العامة، فلا يتدخل المواطنون المسلمون فيما يجريه المواطنون غير المسلمين من شورى في شؤون عقيدتهم، ولا يتدخل المواطنون غير المسلمين فيما يمارسه المسلمون من شورى في شؤون عقيدتهم، اللهمَّ إلا ما كان له دخل في القواعد المشتركة بينهم من قيم إنسانية، وقواعد أخلاقية وشؤون فنية وإدارية.
والدولة التي مرجعيتها الإسلام حصن حصين للأقليات التي تعيش في كنفها وبين مواطنيها، لا سيما حين تكون هذه الأقليات أهل كتاب أو أهل ذمة، كما يسمّيهم الإسلام، وأهل الذمة من غير المسلمين هم مَن كانت حقوقهم مصونة في ذمة المسلمين، والمسلمون مأمورون بحماية الحرية الدينية والدفاع عنها لأنفسهم ولغيرهم، وهو أمر منصوص عليه فيما يقرؤونه في كتاب الله تعالى، قال عز وجل {أُذن للّذين يُقاتلون بأنّهم ظُلموا وإنّ اللَّهَ على نصرهم لقدير * الّذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أنْ يقولوا ربُّنا اللّه ولولا دفْع اللَّهِ النّاس بعضَهم ببعض لهُدّمت صوامعُ وبِيَع وصلوات ومساجدُ يُذكر فيها اسم اللَّه كثيراً ولَيَنْصُرَنّ اللَّهُ مَن ينصره إنّ اللَّه لقويّ عزيز} [الحج: 39 ـ 40].
وهذا عهد عمر بن الخطاب لنصارى المدائن وفارس
"أمّا بعد، فإنّي أعطيتُكم عهد الله وميثاقه على أنفسكم وأموالكم وعيالكم ورجالكم، وأعطيتكم أماني من كلّ أذى، وألزمتُ نفسي أن أكون من ورائكم ذاباً عنكم كل عدوّ يريدني بسوء وإيّاكم، وأن أعزل عنكم كلّ أذى، ولا يغيّر أسقف من أساقفتكم، ولا رئيس من رؤسائكم، ولا يُهدم بيت من بيوت صلواتكم، ولا يُدخل شيء من بنائكم إلى بناء المساجد ولا إلى منازل المسلمين، ولا تكلَّفوا الخروج مع المسلمين إلى عدوهم لملاقاة الحرب، ولا يُجبر أحدٌ من النصارى على الإسلام عملاً بما أنزل الله في كتابه قال تعالى {لا إكراهَ في الدِّين قد تَبيّن الرُّشد مِن الغَيّ} [البقرة: 256] ولي شرط عليهم؛ ألا يكون أحد منهم عيناً لأهل الحرب على أحد من المسلمين في سرٍّ أو علانية، ولا يؤوا في منازلهم عدوا للمسلمين، ولا يدلّوا أحدا من الأعداء ولا يكاتبوه".
دورهم السياسي والاستشاري في الدولة
اختلف الفقهاء حول مدى مشروعية مشاركة غير المسلمين في أعمال السياسة المتعلقة بالمسلمين، لا سيما في أعمال الشورى ومجالسها داخل الدولة، والذي أميل إليه جواز استشارتهم، ودخولهم مجالس الشورى، وينسب القول بالجواز للحنفية وبعض المالكية وللعديد من الباحثين المعاصرين، وما داموا قد أقروا بشرعية السلطة الإسلامية الحاكمة، وبالدستور الإسلامي، والقيم الإسلامية العليا في المجتمع، فإنّه لا مانع من مشاركتهم السياسية، فلهم أن يمارسوا حقوقهم السياسية في ظل هذه السلطة، وأن يعبّروا عن آرائهم وطروحاتهم ضمن نسق هذه السلطة التي جعلوها لهم مرجعاً، بل لهم المشاركة في إبداء صوتهم في التصويت والانتخاب للحاكم، ولهذا أجاز الفقهاء الإنكار والاحتساب على أهل الذمة أو غير المسلمين في الدولة الإسلامية إذا وُجد منهم مخالفات لطبيعة دين الدولة أو معتقدها، لاعتبار أنهم إن أقاموا مع المسلمين في بلد واحد فإنه يحتسب عليهم كل ما يحتسب فيه على المسلمين، ولكن لا يتعرض لهم فيما لا يظهرونه في كل ما اعتقدوا حله في دينهم، مما لا أذى للمسلمين فيه من الكفر وشرب الخمر واتخاذه، ونكاح ذوات المحارم، فلا تعرُّض لهم فيما التزمنا تركه، وما أظهروه من ذلك تعين إنكاره عليهم، ويمنعون من إظهار ما يحرم على المسلمين.
وأما الآيات الواردة في النهي عن موالاة اليهود والنصارى، كقوله تعالى {يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى أولياءَ بعْضُهم أولياءُ بعضٍ ومَن يتولَّهم منكم فإنّه منهم إنَّ اللَّهَ لا يَهدي القومَ الظّالمين} [المائدة: 51]، فهي واردة ضمن حالة الحرب والعداوة، وليس ضمن حالة السلم والتعايش الأهلي ما بين الناس جميعاً، وإلا لكان على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عند دخول المدينة وإقامة دولته فيها، أن يبدأ بقتال اليهود، وطردهم من بيوتهم، وهذا ما لم يحدث البتة، وإنما قام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بجعل الدستور السياسي الذي يشمل جميع المواطنين هو الحَكم، ومن ثَمّ لما اتضح له خيانة اليهود وغدرهم المعتاد، قام بإجلاء بعضهم، وقتل البعض الآخر.
وممّا يؤيد جواز استشارتهم أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد جعل الشورى بين جميع أصحابه، حتى مَن علم منهم نفاقه وكيده للإسلام والمسلمين، كابن سلول، واستشارهم في مواضع عديدة، منها الخروج يوم أُحد. يقول العلامة ابن عاشور التونسي في شأن مشاورة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين "ويحتمل أن يراد باستشارة عبد الله بن أُبي وأصحابه، الأخذ بظاهر أحوالهم، وتأليفهم، لعلّهم يخلصون الإسلام، أو لا يزدادون نفاقاً، وقطعاً لأعذارهم فيما يستقبل".
فإذا كان هذا حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع أعدائه المواطنين، الذين يسكنون معه، ويقيمون بين ظهرانيه، فكيف الحال مع أهل الذمة، الذين أسلموا أمرهم في احترام قيم الدولة الإسلامية؟!
وإذا ذهب بعض الفقهاء -ومنهم الحنفية والحنابلة في الصحيح من المذهب، والشافعية ما عدا ابن المنذر، وابنُ حبيب من المالكية- إلى جواز الاستعانة بأهل الكتاب في القتال عند الحاجة، فمن باب أولى أن يُستعان بهم في الاستشارة المدنية المتعلقة بمصالح العامة من المواطنين أو الرعية.
وهنا يجدر التنبيه إلى أنّ المجلس الأعلى للدولة -وهو ما يعرف اليوم بمجلس الأمن القومي الذي يتبع كل دولة- الأصل فيه أن ينحصر في المسلمين خاصة، إذ به أسرار الدولة المتعلقة بالسلم والحرب، ومخططات الدولة، فهنا نميل إلى قصره على المواطنين المسلمين لدواعي الأمن والاستقرار، ويحظر على هؤلاء المواطنين تسلم مواقع قيادية أو سيادية داخل الدولة الإسلامية.
وممن قرروا في غير مواربة منحَ الأقليات حق الشورى الدكتور يوسف القرضاوي، حيث قال "وإن كان غير المسلمين من أهل دار الإسلام، وبالتعبير الحديث (المواطنون) في الدولة الإسلامية، فلا يوجد مانع شرعي لتمكينهم من دخول هذه المجالس، ليُمثلوا فيها بنسبة معينة، ما دام المجلس في أكثريته الغالبة من المسلمين". وإن القرآن الكريم قال {لا يَنهاكُم اللَّهُ عن الذين لم يُقاتلوكم في الدّين ولم يُخرجوكم مِن دياركم أنْ تَبَرُّوهم وتُقْسطوا إليهم إنَّ اللَّهَ يحبّ المُقسطين} [الممتحنة: 8].
ومن بِرّهم والإقساط إليهم أن يُمثَّلوا في هذه المجالس، حتى يعبّروا عن مطالب جماعتهم، وألاّ يشعروا بالعزلة عن بني وطنهم، ويستغل ذلك أعداء الإسلام والمسلمين ليغرسوا في قلوبهم العداوة والبغضاء للمسلمين، وفي هذا ما فيه من ضرر وخطر على مجموع الأمة، مسلمين وغير مسلمين.
ومن الفقهاء الذين لم يتحفّظوا في إباحة الاشتراك في الشورى لأهل الكتاب الدكتور عبد الكريم زيدان، حيث قال "أمّا انتخاب ممثليهم في مجلس الأمة، وترشيح أنفسهم لعضويته، فنرى جواز ذلك لهم أيضاً، لأنّ العضوية في مجلس الأمة تعتبر من قبيل إبداء الرأي، وتقديم النصح للحكومة، وعرض مشاكلِ الناخبين ونحو ذلك، وهذه أمور لا مانع من قيام الذميين بها ومساهمتهم فيها".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.