يبدو أن الأمور في السودان تسير على عكس ما يروّج لها من خلال القائمين على السلطة وعبر المنصات الإعلامية المقربة من السلطات السودانية، من أن هناك سوداناً جديداً يحترم الحقوق والحريات والتشريعات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، على خلاف ما كانت عليه في عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير.
حيث أقدمت السلطات السودانية على خطوة تمثل انتهاكاً خطيراً للاتفاقيات الدولية بتسليم عدد من المعارضين المصريين المقيمين على أراضيها للسلطات المصرية في 18 يونيو/حزيران 2022؛ بينهم نساء وأطفال لتؤكد أن وقائع الترحيل تتم بشكل ممنهج ومتصاعد يصعب معها قبول ادعاءات شركة بدر للطيران التي سلمت الشاب المصري حسام سلام بتاريخ 12 يناير/كانون الثاني 2022، وذلك بعد أن هبطت طائرتها المتجهة إلى إسطنبول في مصر بدعوى وجود عطل.
لم يكن حسام -الذي يواجه المعاملة غير الإنسانية التي يلقاها داخل مقر احتجازه بالإضراب عن الطعام على مدار 30 يوماً- الضحية الأولى لوقائع تسليم المعارضين لمصر؛ حيث كانت الضحية الأولى هي تسليم المواطن المصري مدين إبراهيم محمد حسنين (59 عاماً) في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019 بعد قرابة عام من اعتقاله في السودان؛ ليُعلن عن أول تعاون من نوعه خارج إطار القانون الدولي بين القاهرة والنظام السوداني الجديد.
وتشير التقارير الحقوقية إلى أن عدد مَن تم ترحيلهم في الواقعة الأخيرة يقدر بـ21 مواطناً مصرياً بينهم نساء وأطفال، واقعة هي الأولى من نوعها من حيث العدد فلم يسبق للسودان أن قام بترحيل جماعي واقتصر على عمليات ترحيل فردي، ومن حيث الضحايا فهناك امرأتان وستة أطفال تتراوح أعمارهم بين 3 سنوات و13 عاماً!
يُذكر أن من بين المرحّلين عصام عبد الجيد سيد وأكرم عبد البديع أحمد ومحمد إبراهيم وابنه إبراهيم محمد إبراهيم كانوا قيد الاعتقال منذ أبريل/نيسان 2021 داخل مقر تابع للمخابرات السودانية عبارة عن فيلا ويشرف عليهم عناصر المخابرات السودانية في أجواء لا تنم عن أنهم متهمون أو متورطون في عمليات إرهابية، كما ادعت بعض وسائل الإعلام المقربة من السلطات في كلا البلدين.
هل من المنطقي إيداع متهمين في عملية اغتيال 5 ضباط مخابرات سودانيين بمنطقة جبرة بالخرطوم، في فيلا طوال هذه المدة ولا يوجه لهم أي اتهام رسمي؟ هل من الطبيعي أن تسلم عناصر أجنبية متورطة في قتل ضباط دون محاكمتهم على جرائمهم؟ بكل تأكيد لا يمكن قبول الرواية الإعلامية لعدم منطقيتها وتعارضها من الواقع سواء المتعلق بظروف إيداعهم في فيلا المخابرات أو عدم اتخاذ أي إجراء قانوني بحقهم بخصوص العملية الإرهابية المزعومة بمنطقة جبرة.
واقع جديد يمثل تهديداً حقيقياً يواجهه الآلاف من المعارضين المصريين المقيمين في السودان بعد أن أجبروا على ترك بلادهم خشية الملاحقات الأمنية وخوفاً على حياتهم من بطش سلطة تعادي كل من يعبِّر عن رأيه أو يقول كلمة لا تحقق للسلطة نفعاً.
لم يتصور المعارضون المصريون المقيمون في السودان أن يتبدل أمنهم خوفاً ويجدوا أنفسهم تحت رحمة سلطة انقلابية تشابهت إلى حد التطابق مع التي كانت سبباً لخروجهم من بلادهم. ولعل هذا التشابه بين السلطتين هو ركيزة التعاون الأمني الجديد بينهما وفقاً للمصالح السياسية المتبادلة مهما كانت كلفة ذلك ومهما أُزهقت أرواح أو تبددت أعمار وأُنهكت أجساد داخل مقرات الاحتجاز.
من المؤكد أن السلطات السودانية ممثلةً في المجلس السيادي المسيطر عليه من قِبل العسكريين تسعى إلى ما سعت إليه مثيلتها في مصر بشرعنة حكمها وترسيخ أركانه، والحصول على دعم إقليمي ودولي، ومن غير السلطات المصرية نموذجاً يقتدي به كل مستبد طامح يحكمه الطمع ولا يلتفت إلى معاناة أو وجع! فهي بحاجة إلى خبرة السلطات المصرية في تسيير أمور الانقلاب وإلى دعمها إقليمياً ودولياً على نحو يجعلها مقبولةً ومعترفاً بها سلطة شرعية تحكم وتمثل السودان.
السودان تحت حكم العسكر يعتبر شريكاً أساسياً لمحور الشر في المنطقة العربية، المكون من السعودية والإمارات ومصر والبحرين والكيان الصهيوني، وبالتالي ليس من المستغرب أن نشاهد وقائع تسليم كالتي تمت وتجاوز قواعد حكمت التعاون الأمني بين السودان وأي دولة أخرى، لم يكن تسليم المعارضين إحدى أدواتها أو خياراً يمكن الحديث حوله، حتى إن التعاون الأمني مع مصر قبل قدوم هذه السلطة لم يكن ليتجاوز حد التحفظ المؤقت أو الإقامة الجبرية المؤقتة والترحيل الاختياري لأشخاص ترى فيهم مصر تهديداً ما داموا طلقاء، والعكس كذلك كان يحدث مع سودانيين في مصر بموجب بروتوكول أمني بين البلدين استمر العمل به طوال فترة حكم عمر البشير.
كل هذا الخوف وأكثر يعيشه المعارضون المصريون المقيمون في السودان الذين لا حول لهم ولا قوة، فلا قانون يحميهم ولا إنسانية أو تشريعات دولية تشفع لهم في ظل إجراءات لا تحترم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا اتفاقية مناهضة التعذيب التي تحظر تحت أي ظرف من الظروف التسليم الجبري لأي إنسان إلى سلطة بلاد من المحتمل أن يتعرض فيها للتعذيب! فما بال البلاد التي من المؤكد أن معارضيها يواجهون شتى صور التعذيب الوحشي وصولاً إلى القتل ثمناً للتعبير عن الرأي!
وأخيراً أتمنى أن يتحمل السودان مسؤولياته تجاه أشخاص أقاموا في بلادهم واستطاعوا أن ينعموا بالأمن بعد خوف ومطاردات لا لشيء سوى أنهم استخدموا حقهم في التعبير عن رأيهم في بلادهم، أشخاص أثبتوا مدى احترامهم للدولة التي استضافتهم واحترموا ثقافة شعبها، والتزموا بالضوابط والقوانين، ولم يدخروا جهداً في سبيل تقنين أوضاعهم كلما أتيحت لهم الفرصة عبر الإجراءات التي أعلنت عنها الدولة مؤخراً، والتي من بينها إلزامية حصول المعارضين المصريين المقيمين على إقامة بعد عقود كان للمصري الحق في الإقامة على الأراضي السودانية دون الحاجة إلى استصدار إقامة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.