يقول المؤرخ الشهير مارك بلوخ "نقول أحياناً: التاريخ علم الماضي، يا له من كلام سيئ، وإنه لأمر سخيف أن يكون الماضي في حد ذاته موضوعاً للعلم".
إن التحولات التي شهدها العالم منذ نهاية القرن العشرين دفعت مجموعة من الباحثين في الإبستمولوجيا التاريخية، إلى طرق باب التاريخ الراهن، وذلك لأسباب عديدة منها: الهزة السياسية الكبرى التي عرفها العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1991، وتوالي الأحداث الكبرى في مختلف أنحاء العالم (الحرب الأهلية في الجزائر ورواندا، وحرب الخليج، والحرب في أفغانستان، وأحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وغزو العراق سنة 2003، والأزمة الاقتصادية سنة 2008، والربيع العربي سنة 2011…).
هذا ما جعل الطلب شديداً على الدراسات التي تتناول هذه الموضوعات بالدرس والتحليل، ما حتّم على الباحثين في هذا المجال الغوص في دراسة التاريخ الراهن وعدم الاقتصار على الماضي.
إلا أن هذا النوع من الكتابات التاريخية يطرح العديد من الإشكالات المنهجية منها: غياب المسافة الضرورية بين الباحث وموضوعه، وعدم استكمال الحدث لملامحه وعناصره، إذ إن الفاعلين في الأحداث والمستفيدين المباشرين منه ما زالوا على قيد الحياة، وبالتالي صعوبة تبين كل جوانبه، وما قد نعتقد أن نتائج التاريخ الراهن لا تعدو كونها مقدمات لنتائج لم تتبلور بعد، هذا فضلاً عن صعوبة الوصول إلى المصادر الأرشيفية، وحتى ما هو موجود منها لا يتوفر على القدر الكافي من الاختمار، كل هذا قد يجعل من التاريخ الراهن مجرد كتابة صحفية أو سياسية أو أدب مذكرات، حسب تعبير الكثير من المؤرخين، لأن الكتابة عن الحدث إبان وقوعه من منظورهم، أمر شبه مستحيل، لأن الأحداث لم تختمر بعد لاستخلاص النتائج.
لقد تلقى هذا النوع من الكتابات التاريخية الكثير من الانتقادات من طرف العديد من المؤرخين الكبار، أمثال: لوسيان فيفر وبيار غوبار وفيليب جوتار… إلخ، الذين أخرجوا هذا النوع من الكتابات من حقل التاريخ، نظراً إلى عدم قدرة الباحث على الوصول للوثائق السرية، إلا بعد مرور أكثر من نصف قرن على الأحداث، وعدم وجود المسافة الكافية بين الباحث وموضوعه، هذا ما يجعله يقع في فخ الأحكام المسبقة، وذلك لتسارع الأحداث وتغيرها بشكل فجائي، وتدخل الأهواء الشخصية وتوجهات الفكرية للباحث وخلفيته الأيديولوجية.
رغم هذه الانتقادات الكثيرة، فقد كسب هذا النوع من الكتابات في العقود الأخيرة اعترافاً اجتماعياً لم يكن يحلم به رواد هذا الحقل التخصصي المثير للجدل، ذلك بسبب الانفجار الإعلامي الذي نعيشه اليوم (وسائل التواصل الاجتماعي -فيسبوك وتويتر ويوتيوب- والمدونات والمنتديات الإلكترونية، والمواقع الإلكترونية…)، ودمقرطة الخبر وإعطاء الحق للمواطن للوصول إلى المعلومة، ولو أن هذا يقتصر على الدول الديمقراطية فحسب، ما أدى إلى بلبلة في أذهان عامة الناس بسبب كمية المعلومات الهائلة التي يستقبلونها في اليوم، هذا ما جعل من أهم مسؤوليات المؤرخ المعاصر محاولة فهم وتحليل ودراسة الأحداث المتسارعة لتقديمها لعامة الناس من أجل الفهم، وقد طرح المفكر فرانسوا هارطوغ François Hartog في هذا الصدد ما سماه بـ"الحاضرنية" (Le presentisme)، التي استمدها من أعمال الباحث الألماني رينهارت كوزيليك (Reinhart Koselleck)، الذي اعتبر أن تجربة الزمن عند كل مجتمع تتحدد في العلاقة والتموضع اللذين يقامان داخل حاضر معين بين طريقة استحضار الماضي وطريقة استشراف المستقبل، أو ما يسميه بـ"حقل التجربة" و"أفق الانتظار". إذن الكتابة في التاريخ الراهن أصبحت ضرورة مجتمعية ومسؤولية تاريخية على عاتق الباحث في مجال التاريخ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.