ينص الدستور الهندي على "علمانية الدولة والتعددية الدينية بين أبناء الشعب"، وهو أمر ربما كانت أغلب الحكومات الهندية المتعاقبة، منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1947، حريصة عليه، وإن كانت تلك الحكومات يترأسها أحزاب وشخصيات تنتمي للديانة الهندوسية، ولكنهم غالباً ما حرصوا على الحفاظ على التوازن والسلم المجتمعي بين مكونات الشعب الهندي قدر الإمكان.
ولكن منذ فوز حزب "بهاراتيا جاناتا" في انتخابات البرلمان في الهند بأغلبية ساحقة عام 2014، تعالت الأصوات القومية المعادية لكل ما هو "غير هندوسي"، وزادت عمليات استهداف الأقليات الدينية في الهند، وخاصة المسلمين، بتواطؤ وأحياناً بتحريض صريح من أفراد "بهاراتيا جاناتا"، بل وحتى من قبل رئيس الوزراء الحالي "ناريندرا مودي".
يجنح الحزب الحاكم بقيادة مودي، نحو تطبيق عقيدة "هندوتفا" التي تزعم أن "الهندوس" يجب أن يهيمنوا على الهند، وأن على الدولة أن تكون ذات هوية "هندوسية"، وليست دولة علمانية، واعتبار كل الديانات "غير الهندية"، مثل الإسلام والمسيحية، دخيلة على الهند، وأن أتباعها يجب القضاء عليهم.
عقيدة "هندوتفا" تأسست بسبب الاستعمار البريطاني
كان الوجود والاحتلال البريطاني للهند أحد أهم الأسباب التي دفعت لظهور النزعة القومية الهندية. حينها ظهرت منظمات مثل "براهمو ساماج" و"آريا ساماج" نهاية القرن التاسع عشر، بهدف إصلاح المؤسسات الدينية الهندوسية، وساهمت في انتشار الاعتقاد القائل بأن الهندوسية أكثر من مجرد دين، ولكن هوية قومية.
ظهرت بعدها "هندوتفا" لأول مرة فكرة سياسية في عام 1923، في كتيب كتبه "فيناياك دامودار سافاركار" بعنوان "هندوتفا.. من هو هندوسي؟". ولد "سافاركار" عام 1883 في الهند، وفي عام 1906 ذهب إلى لندن لدراسة القانون، ومن هناك ساعد في توجيه مجموعة من الثوار في الهند إلى أساليب التخريب والاغتيال.
ألقي القبض على سافاركار عام 1910 بتهم مختلفة تتعلق بالتخريب والتحريض على الحرب، وأرسل إلى الهند لمحاكمته، وأُدين بتهمة التواطؤ في اغتيال قاضٍ بريطاني في الهند، وبعد الحكم عليه نُقل إلى جزر "أندامان" للاحتجاز "مدى الحياة".
أُعيد "سافاركار" إلى الهند في عام 1921، وأُطلق سراحه في عام 1924، وأثناء سجنه كتب "هندوتفا.. من هو الهندوسي؟" عام 1923. في الكتاب قدم "سافاركار"، تعريفاً للهندوس على أنهم ثقافة وجغرافيا وروابط دموية وبلد وأمة متجذرة في التاريخ الإنساني، والهند تعتبر وطناً "للهندوس"، وأرضاً مقدسة لأتباع هذه الديانة.
وبحسب "الهندوتفا" يجب التمييز بين الأديان التي تعود أصولها إلى الهند، مثل اليانية والهندوسية والبوذية والسيخية باعتبارها "أدياناً هندية" أو "هندوسية" أصيلة، واعتبار المسيحية والإسلام "ديانتين أجنبيتين" دخيلتين، واللتين وإن كان لهما أتباع في الهند، لكن هاتين الديانتين "جاءتا من خارج الهند على يد الغزاة".
ويرى معتنقو "هندوتفا" أن الصراع في شبه القارة الهندية كان ولايزال صراعاً بين الهندوسية والإسلام من أجل الاستحواذ على شبه القارة الهندية، ويُنظر إلى الحكم البريطاني للهند على مدى 200 عام على أنه مجرد فترة استراحة في هذا الصراع المستمر منذ 1000 عام.
من عقيدة وأفكار إلى ميليشيا شبه عسكرية!
أثناء سلسلة من أعمال الشغب والمواجهات بين الهندوس والمسلمين عبر شمال الهند، تأسست في عام 1925 جماعة "Rashtriya Swayamsevak Sang" أو "RSS"، وهي منظمة تطوعية شبه عسكرية يمينية هندوسية تؤمن بفكرة "الهندوتفا".
كان التطور المحوري في هذه المنظمة عام 1940، عندما ترأسها شخص يدعى "غولوالكار هيدجوار"، يعتبره البعض المهندس الأيديولوجي لـ"RSS"، وبحسب صحيفة "indian express" فإن رؤية "غولوالكار" لدولة هندوسية استلهمها من الفاشية الإيطالية، وتحديداً تنظيم موسوليني للقوات شبه العسكرية الفاشية.
كتب "غولوالكار" ذات مرة مقارنة شبَّه فيها تفوُّق الهندوس في الهند بتفوُّق العرق الآري في ألمانيا الهتلرية، وقال: "للحفاظ على نقاء عرقها وثقافتها، صدمت ألمانيا العالم بتطهيرها للبلاد من الأجناس السامية – اليهود. يتجلى فخر العرق في أعلى مستوياته هنا. درس جيد لنا في هندوستان لنتعلم وننتصر من خلاله".
وحين أسس المهاتما غاندي حركة "اتركوا الهند"، المعروفة أيضاً باسم "حركة أغسطس"، التي ضمت أغلب القوى السياسية الهندية في 8 أغسطس 1942، والتي طالبت بإنهاء الحكم البريطاني للهند، مُنع أفراد "RSS" من المشاركة في الحركة.
أثناء تقسيم شبه القارة الهندية إلى الهند وباكستان في عام 1947، ورد أن "جولوالكار" التقى بغاندي للرد على اتهامات بشأن تورط "RSS" في مذابح واسعة النطاق بحق المسلمين، وفي 30 يناير 1948، قُتل غاندي على يد "ناتهورام جودسي"، وهو عضو في حركة "RSS"؛ لأن "جودسي" اعتبر غاندي متخاذلاً، بعد أن رفض الحرب بين الهند "الهندوسية" وباكستان المسلمة. في أعقاب ذلك، سُجن "غولوالكار"، وانحسر نشاط منظمة "RSS".
عودة النشاط والوصول إلى الحكم
عاودت المنظمة نشاطها في الخمسينيات، وانبثقت عنها عدة أحزاب سياسية لتكون واجهة لها وتمثلها في البرلمان. لم تستطع تلك الأحزاب تحقيق رؤية المنظمة أو السيطرة على الحكم بشكل كامل، حتى عام 1980، وهو عام تأسيس حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم، ليصبح الواجهة السياسية للمنظمة، وبدأ الحزب في كسب الأتباع والأصوات.
بدأ حزب "بهاراتيا جاناتا" في تحقيق نجاح انتخابي في عام 1989، عندما استفاد من الشعور المعادي للمسلمين حينها من خلال الدعوة إلى إقامة معبد هندوسي في منطقة "أيوديا"، التي يعتبرها الهندوس مقدسة، وهدم مسجد "بابري" التاريخي الموجود هناك.
بحلول عام 1991 زاد حزب بهاراتيا جاناتا بشكل كبير من جاذبيته السياسية، وحصل على 117 مقعداً في "مجلس الشعب" من أصل 545 مقعداً، وحصل على السلطة في 4 ولايات.
وفي عام 1992، حرَّض أفراد من "RSS" وشاركوا بتدمير مسجد "بابري"، بحجة أن المسجد الموجود منذ العصر المغولي بُني على رأس مسقط رأس الإله الهندوسي "رام"؛ لتندلع أعمال عنف في البلاد، وقُتل خلال تلك الاضطرابات حوالي 2000 مسلم.
في عام 2009، بعد هزيمة حزب "بهاراتيا جاناتا" الواجهة السياسية للمنظمة، في الانتخابات الوطنية، تولى "موهان بهاجوات" إدارة منظمة "RSS"، وفي الفترة التي سبقت انتخابات 2014، قام أعضاء المنظمة بحملة نشطة للحصول على الدعم الشعبي للحزب، ودعم "ناريندرا مودي" عضو المنظمة منذ كان طفلاً بعمر 8 سنوات، والذي كان متهماً بـ"السماح" بمذبحة حدثت عام 2002 ضد المسلمين، حين كان مسؤولاً في ولاية "غوجارات". ومن حينها بدأت السيطرة الحقيقية للمنظمة وتطبيقها لعقيدة "الهندوتفا" بشكل واسع.
في 2019 جردت الحكومة التي يقودها حزب "بهاراتيا جاناتا"، "جامو وكشمير"، الولاية ذات الغالبية المسلمة، من حكمها الذاتي الذي تمتعت به، وارتكبت قوات الأمن أعمال عنف ضد المدنيين المسلمين، وسط اتهامات بمحاولة تغيير التركيبة السكانية للولاية، ومحاولة إعادة توطين هندوس موالين للحزب هناك.
في فبراير 2020، في أعقاب المذابح المعادية للمسلمين في دلهي، قُبض على 16 من كوادر "RSS"، ووجهت إليهم تهم القتل وأعمال الشغب، وقُتل ما لا يقل عن 53 شخصاً خلال أعمال العنف، 3 أرباعهم تقريباً من المسلمين.
المجزرة حدثت بعد احتجاجات ضد قانون الجنسية الذي صدر عام 2019، وسلب حق الحصول على الجنسية من حوالي 200 مليون هندي لكونهم مسلمين، ثم تحولت الاحتجاجات للمطالبة بظروف معيشية أفضل، انضم لها الكثير من الهنود حتى من غير المسلمين.
بحسب صحيفة "The Guardian"، فإن الدافع وراء المذبحة كان تعليقاً من "كابيل ميشرا" زعيم حزب بهاراتيا جاناتا، الذي أصدر إنذاراً عاماً يعلن أنه إذا لم تقم الشرطة بإخلاء الشوارع من المحتجين فإن أنصاره "سيضطرون إلى النزول للشوارع".
في عام 2020، كان لدى "RSS" ما يقرب من 6 ملايين عضو، وأكثر من 57 ألف فرع، بالإضافة إلى ملايين المؤيدين، ولها عدة أجنحة تمثلهم منها الجناح النقابي "بهاراتيا مازدور سانغ"، وجناح الطلاب "أخيل بهاراتيا فيديارثي باريشاد"، والجناح الاقتصادي "سواديشي جاغاران مانش".
كما أن الحزب الحاكم ومعظم الوزراء في الحكومة الحالية هم من المنظمة أو المتعاطفين معها، بما في ذلك رئيس الوزراء الحالي، "ناريندرا مودي"، بالإضافة إلى ممثلي المنظمة من أعضاء البرلمان الهندي.
"مودي" الذي كانت خطاباته المعادية للإسلام علنية منذ البداية، في عام 2004 في ولاية غوجارات قاد مسيرة "للفخر الهندوسي"عبر الولاية، وأعلن في خطابه لأتباعه أنه يشاركهم تعصبهم.
وأشار إلى أن مسلمي الدولة يشكلون عائقاً يجب التغلب عليه. وقال: "إذا رفعنا من احترام الذات والروح المعنوية لـ50 مليون غوجاراتي، فلن تكون مخططات أولئك الذين أسماؤهم "علي" و"جمال" قادرة على إلحاق الضرر بنا".
اليوم تسير الهند بقيادة "مودي" وأعضاء "RSS" باتجاه تحويلها لدولة تطبق عقيدة "هندوتفا" العنصرية، بالقوانين المجحفة تارة مثل حظر الحجاب وقانون الجنسية العنصري، والعنف الدموي الواضح والمذابح على أيدي أفراد "RSS" تارة أخرى.