ليست تنزانيا التي لا أعرفُها ولا تعرفونها، بل نسمع عنها جميعاً. هناك وسط إفريقيا تحدّها أربعة بلادٍ سمراء أُناسها.
هنا في مصر وفي محافظتي بالتحديد منطقة طويلة الُبعد أذهب إليها كل حين وحين، الحين هنا يقدرُ بأسبوعينِ.
لست وحدي مع صديقي، رفيق رحلتي، مغامر الضحك، مثابر الأمل الذي فُقد أول الطريق وربما يرجع معنا آخره.
تقابلنا واتفقنا أننا اليوم بؤساء القلب، عقولنا قد تاهت بلا ملتقى على الأقل في الساعات القادمة.
الحياة ربما تكون مالحة في مذاقها فرحلتِنا قد تحاول معادلتها ببعض السكريات التي نبحث عنها بين الحكايات التي نتذكرها. بدأت خطواتنا تسيرُ بالتوازي حتى لا ينقطع حديث هو لي، انتقلنا من وسط الطريق لجانبِه تخوفاً من موتٍ آت لا محالة تحت إطار سيارة يركبها لاحقاً بنا إن دهسنَا.
على الرصيف، النيل على يميني ويمنه وبعد أن اطمأن كل واحدٍ منا على حياته بدأ الحديث عن الحياة.
ثلاثة وعشرون عاماً، نعمل في مجالين مختلفين نطمح من خلالهما للمال، يستدرجنا الحديث إلى العاطفة فنحلم بالفتاةِ الملتزمة الجميلة فنتذكَر المال مرةً أخرى فنَعقل، ولكن لا نخشى العقل ونستكمل الحديث عن أي فتاة؟ ومَن هي؟ ومتى ستختارها؟ ولكن نؤكد أن زوجتينا لا بد أن تكونا صديقتين من باب وصال الود لا انقطاعه لا أكثر.
وتعاهدنا ألا نعتاد أو نتقلد عادات وتقاليد الزواج المملة من قاعات كبيرة وزفاف في الشوارع بالسيارات أو الحناطير على الكورنيش، وأن العُرس سيكون عصراً في مكان هادئ ومفتوح ولا مانع من بعض العُشب الأخضر إن حضر لنقف عليه، وكثُر الحديث بتفاصيله المتشعب المثرثر.
بدأ صوت دويّ السيارات ينخفض تعداده وتطول مسافاته وتبتعد ضوضاؤه، فَنبرهن على أن المدينة التي نريد الوصول لها قد قاربت لنا، والذي سميناها "تنزانيا" التي لا نعرفُها.
ثم همس لي ووقف ورفع يده ووجهها لتمتد عنقي لأعلى وتذهب عيني إلى ما وجه.. ناطحات سماء عالية، أبراج فاخرة بُنيت خصيصاً للشباب المقبلين على الزواج كحالنا، وقال وهو يمزح حالي: سنسكُن هنا. يعرف جيداً كم يساوي سعر الشقة الواحدة من الملايين التي نفتقدها؟ فلذلك بالتأكيد هو يمزح، ويتكرر الضحك عندما نتذكر أصدقاءنا المقربين وهم تعدادهم أربعة، نتذكر كل واحدٍ منهم بفكرة هو يتميز به ويمتلكها ولكن نتشابه معهم في فقداننا لتلك الشقة الناظرة إلى أسفل علينا.
ثم يقل عدد السيارات في الطريق، وينقطع النيل من رحلتنا ليصل في رحلة أخرى مع أولادٍ غيرنا لآدم، فتأخذ صديقي الشجاعة ويبدأ يرتفع صوته ويُندد بحال الشباب أجمع، لا عمل، لا فرص، لا زواج، لا حرية، ولا كرامة. فأصرخ في وجهه قائلاً: لا ترفع صوتك أكثر من ذلك، فَالنباتات لها آذان، سهوت ونسيت أن أذكركم أن الطريق بعد انقطاع النيل أصبح يمتلئ بالحشائش الممتزجة بالرمل وغصون الأشجار الصغيرة ترتفع وتوازي ساقينا، أما عن الكبيرة فتنحني لها رؤوسنا خوفاً من أطرافها المدببة، ناهيك عن الحفر الموجودة التي لا يكتشفُها إلا من وقع فيها، ولا يقعُ إلا الشاطر فلذلك لا نقع.
خلا المشهد من أي أُناس غيرنا وسيارة تلو أختها كل دقيقتين ربما، وكان الحديث يتموضع على طاولة السياسة قبل أن أُحذر صديقي أن يجلس على طاولة أخرى، وإذ فجأة تسارعت أَرجُلنا نحو امرأة عجوز تنبطح على الأرض تصرُخ ألماً وسط الطريق ووصلنا إليها بعد وصول امرأة أخرى تفاجأت مثلنا، ومسكنا بها ونهضت بنا وطفل لا يبلُغ أربع سنوات على حافة استطالة الطريق من الناحية الأخرى يصرُخ يُنادي أمه التي تركته لتُنقذ عجوزاً قد صرخ.
انتهينا وقد تفرق المُنقِذ والمُنقَذ، بالطبع تكلمنا مباشرةً عن إنسانية المرأة وشهامتها ونَسويتها؛ لأنها تركت طفلها وأسرعت لتنقذ العجوز.
وجاء دور الهجرة في الحديث ليست الهجرة إلى "تنزانيا" التي لا نعرفها، بل إلى ألمانيا، السويد، أوروبا عامةً، ولكن تذكرنا المال فتبعثر على لساننا أسماء دول الخليج؛ حيث المال الوفير كما يُقال.
لكننا نبحث عن الفرصة، بل الأصح أننا نصنع الفرصة ولا ننتظرُها. وضربنا الأمثال بألقاب أصدقائنا المسافرين نناقش أحوالهم ونقيس أمورهم بالنسبة لنا؛ لكي نأخذ تجربتهم عبرةً لنا ولا نقع كما وقعت العجوز.
بدأ الضوء يشعُ من بعيد يقترب إلينا، نبتسم كالمنتصر بدون حرب، ها قد وصلنا أخيراً إلى "تنزانيا" التي نعرفُها، تلك المنطقة في محافظتنا سمّيناها هكذا لما نلاقيه من صراعات نفسية ومادية طويلة وشاقة علينا، وطريق يمتلئ بالأشجار والصحراء العُشبية.
ولكن لماذا نذهب لتلك المنطقة البعيدة؟ كما نوَّهت في السطور الأولى بأن الحياة قد ملحَ طعمُها فنحتاج لبعض السكريات، ببساطة لأنه يوجد محل حلويات هُناك نأكل منه "الأرز باللبن".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.