ماذا تعني الاستقالة الجماعية لنواب التيار الصدري في البرلمان العراقي دستورياً وسياسياً؟ هذا هو السؤال الذي فرض نفسه على المشهد السياسي المتسم أصلاً بالضبابية والجمود على مدى أكثر من 8 أشهر.
كانت الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق، والتي أجريت 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قد شهدت فوز تيار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بـ73 مقعداً من إجمالي 329 مقعداً هي عدد أعضاء البرلمان؛ مما جعل التيار الصدري صاحب الكتلة الأكبر، وهو ما يعطي الكتلة الحق في منصب رئيس الدولة ومن ثم رئيس الحكومة.
لكن بعد أكثر من 8 أشهر على الانتخابات البرلمانية لا يزال العراق دون حكومة جديدة ودون رئيس، في مؤشر واضح على مدى عمق الانقسام السياسي في البلاد وصعوبة التوافق أو الوصول إلى حلول وسطية.
لماذا استقال نواب التيار الصدري؟
وجه مقتدى الصدر الأحد 12 يونيو/حزيران رسالة مفتوحة إلى رئيس كتلة "سائرون"، حسن العذاري، قال فيها إنه "على رئيس الكتلة الصدرية أن يقدم استقالات الأخوات والإخوة في الكتلة الصدرية إلى رئيس مجلس النواب"، مضيفاً في البيان الذي كتب بخط اليد، أن هذه الخطوة "تضحية مني للبلاد والشعب لتخليصهم من المصير المجهول".
وبعدها بقليل، قبل رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي الاستقالات، وظهر الحلبوسي في تسجيل مصور بثته وكالة الأنباء العراقية وهو يوقع على استقالة النواب.
وكتب الحلبوسي تغريدة على حسابه في تويتر قال فيها: "نزولاً عند رغبة سماحة السيد مقتدى الصدر، قبلنا على مضض طلبات إخواننا وأخواتنا نواب الكتلة الصدرية بالاستقالة من مجلس النواب العراقي. لقد بذلنا جهداً مخلصاً وصادقاً لثني سماحته عن هذه الخطوة، لكنه آثر أن يكون مضحياً وليس سبباً معطِّلاً؛ من أجل الوطن والشعب، فرأى المضي بهذا القرار."
قرار الصدر الانسحاب من البرلمان من خلال استقالة نواب كتلته يأتي بعد أقل من شهر على إعلانه التخلي عن مساعي تشكيل الحكومة الجديدة والانتقال إلى صفوف المعارضة لمدة 30 يوماً (تنتهي في 15 يونيو/حزيران الجاري)، فهل يريد أن تؤدي الخطوة إلى حل البرلمان في نهاية المطاف والعودة إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى؟
علي الموسوي، النائب الشيعي السابق والباحث السياسي في جامعة بغداد، يرى أن "الصدر وصل إلى المرحلة التي قبل فيها بالحقيقة المرة بأنه أصبح من شبه المستحيل تشكيل حكومة بعيداً عن المجاميع المدعومة من إيران".
وأضاف الموسوي لرويترز أنه على الرغم من أن انسحابه يمثل انتكاسة، فإن الصدر، الذي قاتل مؤيدوه وأنصاره قوات الاحتلال الأمريكية، لا يزال يتمتع بالقوة المستمدة من مئات الألوف من هؤلاء المؤيدين الذين يمكنهم تنظيم احتجاجات.
وعلى الرغم من أن الانتخابات كانت قد أجريت 10 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن رفض الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، والتي شكلت معاً ما يعرف باسم "الإطار التنسيقي"، ظلت رافضة للنتائج وتقدمت بدعاوى أمام المحكمة الاتحادية (أعلى سلطة قضائية في البلاد)، ولم تحسم النتائج رسمياً إلا يوم 30 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ووقتها أعلن الصدر رغبته في تشكيل "حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية"، في مؤشر على سعيه تخليص العراق من النفو ذ الإيراني المتمثل في ميليشيات الحشد الشعبي، إضافة إلى إنهاء النفوذ الأمريكي كذلك بشكل نهائي، لكن يبدو أن تحقيق ذلك أمر أصعب كثيراً على أرض الواقع.
ما السيناريوهات المحتملة في العراق الآن؟
من الطبيعي أن يكون هذا السؤال هو الأكثر تداولاً الآن بعد أن تقدم نواب "سائرون" باستقالاتهم وقبولها من جانب رئيس البرلمان. فسائرون هي الكتلة الأكبر "73 مقعداً" وكتلة الحلبوسي "تقدم" تأتي في المركز الثاني بـ38 مقعداً، تليها كتلة "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق بـ37 مقعداً، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود برزاني وحصد 32 مقعداً.
وتوجد أمام العراقيين خيارات أولها حل البرلمان، ويتم ذلك بتقديم ثلث أعضاء المجلس (110 أعضاء) طلباً إلى رئيس المجلس "الحلبوسي"، أو طلب يتقدم به رئيس الوزراء "مصطفى الكاظمي"، بموافقة رئيس الجمهورية "برهم صالح"، يقدم إلى مجلس النواب ليصوّت عليه في كلتا الحالتين بموافقة الأغلبية المطلقة، ثلثي أعضاء المجلس (210 أعضاء).
وعلى الرغم من أن التبعات الدستورية لخطوة مقتدى الصدر لم تتضح بعد، إلا أن المحلل السياسي العراقي حمزة حداد يرى أنه "رغم قبول رئيس البرلمان للاستقالات، لا يزال على البرلمان التصويت بغالبية مطلقة على ذلك بعد تحقيق النصاب"، لافتاً في تغريدة إلى أن البرلمان في عطلة لشهرين منذ 9 يونيو/حزيران الجاري، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.
وبالتالي فإنه لا أحد يعرف إلى أين تسير الأزمة السياسية التي يعيشها العراقيون منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة نتيجة للخلافات الحادة على تشكيل الحكومة الجديدة بين تيارين رئيسين ورؤيتين متعارضتين. الكتلة الصدرية ومعها "تحالف إنقاذ وطن"، والحزب الديمقراطي الكردستاني والعرب السنة ممثلين في "تحالف السيادة" من جهة، مقابل الأحزاب السياسية الموالية لإيران والمنضوية تحت لواء "الإطار التنسيقي".
إذ إن قوى الإطار التنسيقي تريد تشكيل "حكومة توافقية" وفق مبدأ المحاصصة السياسية، الذي يعطي رئاسة الجمهورية للأكراد ورئاسة الحكومة للشيعة ورئاسة البرلمان للسنة، وهو النظام الذي يحكم العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003.
وعلى الجهة الأخرى يسعى الصدر إلى تشكيل حكومة "أغلبية وطنية"، لكن خبراء في الانتخابات العراقية كانوا يعتقدون، منذ البداية، أن الكتلة الصدرية لا تملك ما يكفي من التحالفات للإعلان عن الكتلة النيابية الأكثر عدداً وتسمية مرشحها لرئاسة الحكومة الجديدة الذي سيكون عليه الحصول على الأغلبية المطلقة، أي النصف زائد واحد من مجموع أعضاء مجلس النواب، وهو أمر مستبعد دون عقد تحالفات مع قوى الإطار التنسيقي أو مع القوى السنية أو الكردية.
هل يكون استمرار الكاظمي هو الحل؟
بما أن البرلمان العراقي في إجازة الصيف ولن يعود للانعقاد إلا بعد يوم 9 أغسطس/آب المقبل، يمكن القول إن الوضع الحالي سيظل مجمداً كما هو، على أساس أن استقالة أعضاء التيار الصدري لن تكون نهائية إلا بعد يتم التصويت على قبول الاستقالة في جلسة عامة.
وخلال تلك الفترة ستظل حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تؤدي عملها كحكومة تصريف أعمال، مع استمرار المفاوضات خلف الأبواب المغلقة في محاولة للتوصل إلى حلول توافقية قبل اللجوء إلى حل البرلمان والعودة مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع.
ويمكن القول إن الكاظمي كان يمثل، منذ ظهور نتائج الانتخابات، الحل الوسط أو الاحتمال الأقرب، بحسب رؤية أغلب المحللين والمراقبين، فهل تتم العودة إلى هذا الحل كمخرج للأزمة أو الجمود الحالي؟ الإجابة إلى حد كبير قد تكون لدى الإطار التنسيقي وليس التيار الصدري.
إذ إن العلاقة بين الكاظمي والحشد الشعبي، الظهير الداعم لأغلب أحزاب الإطار التنسيقي، علاقة تكسير عظام وصلت إلى حد محاولة اغتيال الكاظمي، التي اتهم فيها الحشد الشعبي. وكانت طائرة مسيرة محملة بمتفجرات قد استهدفت، خلال نوفمبر/تشرين الثاني، منزل الكاظمي في بغداد، فيما وصفه الجيش العراقي بأنه محاولة اغتيال.
كان ذلك خلال فترة الأجواء الملتهبة بعد ظهور نتائج الانتخابات، التي كان الحشد الشعبي الخاسر الأكبر فيها، حيث شهدت خسارة تلك الفصائل الشيعية المسلحة المدعومة من إيران، أغلب مقاعدها البرلمانية، فرفضوا النتائج وحملوا الكاظمي نفسه مسؤولية "تزوير" يقولون إنه شاب الانتخابات.
كان الصدر يريد تشكيل حكومة أغلبية وطنية من خلال استبعاد بعض القوى منها، وعلى رأسها ائتلاف "دولة القانون" بزعامة نوري المالكي. لكن قوى "الإطار التنسيقي" تطالب بحكومة توافقية تشارك فيها جميع القوى السياسية داخل البرلمان على غرار الدورات السابقة.
الخلاصة هنا أنه لا أحد يمكنه التنبؤ بالمسار الذي تتجه إليه الأمور في العراق الآن بعد خطوة الصدر غير المتوقعة، فهل تكون الانتخابات المبكرة مرة أخرى هي المخرج أم يتم "التوافق" على استمرار الكاظمي رئيساً للحكومة وبرهم صالح رئيساً للجمهورية ويعود نواب الصدر عن استقالتهم؟