سببت البطاطس مجاعة كبرى في أيرلندا بين عام 1845 و1852 وتسببت في وفاة نحو مليون شخص وهجرة أكثر من مليون ونصف مليون آخرين، في بلد كانوا يعيش فيه، في تلك الفترة، حوالي 8.5 مليون نسمة، وعُرفت باسم "مجاعة البطاطس الأيرلندية" أو مجاعة أيرلندا الكبرى، ورغم مرور أكثر من قرن ونصف على المجاعة وتأثيرتها إلا أنها لا تزال محل جدل حالي حول ما إن كان بإمكان حكومة بريطانيا العظمى، في ذلك الوقت، تفادي حدوثها أو على الأقل التقليل من حدتها ومن خسائرها البشرية.
مجاعة البطاطس الأيرلندية
بدأت المجاعة في خريف 1845، إثر فساد ثلث المحصول الأيرلندي من البطاطس، وذلك بسبب تلوثه بمرض العفن الفطري الزغبي الذي انتشر بعد وصول فطريات طفيلية إلى شمال غرب أوروبا عبر سفن قادمة من أمريكا الجنوبية في صيف العام نفسه، ثم ساهمت الظروف المناخية في ذلك الصيف (غزارة الأمطار وشدة سرعة الرياح) في زيادة انتشار المرض في محاصيل البطاطس.
وقد تأثر المزارعون الأيرلنديون الصغار بشكل خاص بالضرر الكبير الذي أصاب المحصول بحكم أن نظامهم الغذائي كان، منذ بداية القرن التاسع عشر، يعتمد على استهلاك هذا الخضار.
فعندما دخلت البطاطس إلى أيرلندا كانت مجرد نبات للزينة، ولكنّها مع مرور الوقت أصبحت طعاماً أساسياً للفقراء الذين هم غالبية الأيرلنديين، وكان 33% من السكّان يعتمدون في تغذيتهم على أكل البطاطس، كما استخدمت أيضاً علفاً للماشية، وبهذه الطريقة كانت أي أزمة في هذا المحصول ستتسبَّب في كارثةٍ كبرى.
سوء تقدير الحكومة وخطأ اللجنة العلمية فاقم أزمة البطاطس
كان من الممكن جداً أن يتم التقليل من حجم الكارثة وحصرها في سنة واحدة فقط لولا سوء تقدير الحكومة البريطانية، وخطأ اللجنة العلمية التي أوكلت لها مهمة الكشف عن سبب فساد المحصول الزراعي، بحسب ما ذكرته مجلة Histoire الفرنسية.
فقد سبق أن عاشت أيرلندا المجاعة ولكن لفترة قصيرة، وذلك في سنوات 1720 و1730 و1810، ولذلك فإنّ الحكومة البريطانية برئاسة روبرت بيل، كانت تعتقد أن مجاعة البطاطس ستزول في عامها الأول (1845).
ولكن محصول سنوات 1846 و1947 1848 و1849 تعرض لضررٍ كبيرٍ، بحيث لم يتم، في بداية الأمر تحديد الطفيليات كسبب لتعفن البطاطس، والذي كان من الممكن في حالة تحديدها أن يساعد في احتواء الآفة والحد من انتشارها.
إذ رأت اللجنة العلمية الأولى التي عينتها حكومة روبيرت بيل، أنّ الطقس الرطب والبارد في الصيف الذي سبق خريف 1945 هو المسؤول عن تعفن الحصاد، فأوصت بتهوية الدرنات ثم غمرها في مياه المستنقعات.
إذ كانت أيرلندا جزءاً لا يتجزأ من المملكة المتحدة منذ قانون الاتحاد لعام 1800، ولذلك فإنّ التكفل بمساعدة الشعب يقع على عاتق الحكومة البريطانية في لندن، وقد حاولت ذلك بجدية أكبر بعد تفاقم الأزمة وانتشار الأوبئة والمجاعة.
ولكن مع أربعينيات القرن التاسع عشر بدأت الأيديولوجية الليبرالية تنتشر في بريطانيا العظمى، ليبدأ الاعتماد على التجارة الحرة وعدم تدخل الدولة في اقتصاد البلد بشكل مباشر، وحينها قرر رئيس الحكومة روبيرت بيل شراء 50 ألف كيلوغرام من الذرة الأمريكية ، بشكلٍ سري، في خريف عام 1845، وذلك بهدف إمداد السوق الأيرلندية بالحبوب في ربيع عام 1846، لكن بشرط أن تبيعه هيئات الرعاية الاجتماعية المحلية بسعر التكلفة.
كما أعادت حكومة بيل تنشيط سياسة الورشات العامة التي يتم فيها تشغيل أولئك الذين يطلبون المساعدة، ولكنها بالمقابل، أحجمت عن مساعدة مئات الآلاف من المهاجرين الذين اضطروا لمغادرة جزيرة أيرلندا بوسائلهم الخاصة.
وفي السنة الثانية للمجاعة (1846)، رحلت حكومة بيل وحلت محلها حكومة بريطانية جديدة برئاسة الليبرالي جون راسل، التي قامت بتخفيض مساعدات الدولة إلى الحد الأدنى، من خلال الاكتفاء بتقديم، بعض الحساء للفقراء من حين لآخر، بقصد التصدي للآثار الشديدة لسوء التغذية.
كما تخلت هذه الحكومة تدريجياً في سنة 1847 عن الورشات العامة، فقامت بإيواء السكان الأكثر فقراً في ملاجئ مزدحمة وظروف صحية كارثية، فملجأ "فيرموي" مثلاً بمقاطعة "كورك" الذي بُني لاستقبال 800 فقير، كان يأوي في مارس/آذار 1847 حوالي 1800 شخص، كما كان يقطن به المرضى والأصحاء معاً في مكانٍ واحدٍ، ما أدى في ظرف 3 أشهر فقط لوفاة 25% من ساكنيه.
الموت جوعاً وبالأوبئة أيضاً
أشارت التقديرات إلى أن ثلثي ضحايا المجاعة قد ماتوا بسبب الجوع بشكلٍ مباشرٍ لإصابتهم بالوذمة أو الدوسنتاريا، فيما توفي الثلث الآخر لاستسلامه لأوبئة مختلفة كلكوليرا والتيفوس والحمى التي تنتشر بسهولة بين السكان المعانون من نقص المناعة والذين كانوا يعيشون في بيوت فقيرة ومكتظة، كما تأثر الأطفال، بشكلٍ خاصٍ، بمرض السل والحمى القرمزية.
ومع ذلك، فإنّ الأشخاص الأكثر فقراً لم يكونوا وحدهم المتضررين، فالأطباء والمسؤولون المحليون والكهنة وكل من يعملون على مساعدة المرضى قد تعرضوا أيضاً لمختلف أنواع الأوبئة لاحتكاكهم المباشر مع المرضى.
"سفن التوابيت" زادت من حجم المأساة
تسببت مجاعة البطاطس في هجرة جماعية كبيرة، بحيث غادر، في ظرف 6 سنوات، حوالي مليون ونصف مليون أيرلندي جزيرتهم نحو إنجلترا وأسكتلندا وأمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) وأستراليا ونيوزيلندا.
ومع عدم وجود دعم من الدولة، كان تمويل رحلات الهجرة الجماعية من المدخرات الشخصية أو من قبل الأصدقاء والأقارب الذين هاجروا من قبل، وذلك، مثلاً، على شكل تذاكر مدفوعة مسبقًا لعبور المحيط الأطلسي.
كما كان هنالك بعض كبار ملاك الأراضي، مثل الكونت فيتزويليام أو الفيسكونت بالمرستون الذين ساعدوا فلاحيهم مادياً على الهجرة، ولو أن ذلك، في أغلب الأحيان، قد تم بهدف التخلص من المستأجرين المعوزين.
رحلات الهجرة هذه لم تكن سهلة، إذ كانت الرحلة نحو كندا مثلاً، عبر المحيط الأطلسي وعلى متن السفن الشراعية، تستغرق من خمسة إلى تسعة أسابيع في أربعينيات القرن التاسع عشر.
وعلى متن تلك السفن، واجه المهاجرون الجوع أيضاً، كما واجهوا شتى الأمراض الخطيرة كالزحار، والكوليرا والتيفوس، حتى أن تلك السفن كانت تُسمى "سفن التوابيت" لوفاة الكثير من المسافرين على متنها خلال المجاعة الكبرى للموت.
وحدثت أكثر الرحلات دموية في سنة 1847، بحيث من ببين 100 ألف مهاجر أيرلندي غادروا نحو مقاطعة كيبيك الكندية توفي السدس منهم، إما على متن السفينة أو في مستشفى "غروس إيل" حيث تم احتجازهم في الحجر الصحي.
تقديم اعتذارات رسمية بعد سنوات لسوء تسيير الأزمة
ما زاد من تعقيد الوضع هو، وبحسب ما ذكره موقع History الأمريكي، أنّ أيرلندا واصلت خلال فترة المجاعة تصدير كميات كبيرة من الغداء وبالخصوص نحو بريطانيا العظمى، كالأغنام والأرانب والحوت والزبدة والعسل والبازلاء والفاصوليا.
ولا يزال النقاش قائماً إلى غاية الآن حول تسيير الحكومة البريطانية لمجاعة البطاطس وعواقبها، في ما إذا كانت قد تجاهلت بشكل خبيث محنة فقراء أيرلندا، أو ما إذا كان تقاعسها ورد فعلها لم يكن مناسباً أو كفؤاً.
ومع الأرقام الضخمة التي خلفتها المجاعة قدم توني بلير اعتذاراً رسمياً لأيرلندا حينما كان رئيساً لوزراء بريطانيا، في عام 1997، حول تسيير الأزمة من طرف الحكومة البريطانية لذلك الوقت.