يشتهر الفرنسي جان فرانسوا شامبليون بأنه أول من فك رموز اللغة الهيروغليفية، في العام 1822، التي كانت قاعدة أساسية لعلم المصريات الحديث، والتي بفضلها تمكن العلماء من فهم الكثير من البرديات والحفريات والنقوش على جدران المعابد والمقابر وكتابة الكثير عن تاريخ مصر القديمة والحضارة الفرعونية.
ولكن قبل شامبليون بنحو 9 قرون، استطاع عالم مسلم فك رموز الهيروغليفية باعتراف أحد أشهر المستشرقين الأوروبيين الذي قام بترجمة كتابه الذي يتناول اللغة المصرية القديمة، هذا العالم اللغوي المسلم هو ابن وحشية النبطي الذي عاش في القرن الثالث هجري.
ابن وحشية النبطي.. عالم مسلم فك رموز اللغة الهيروغليفية
اسمه الكامل هو أحمد بن علي بن قيس بن المختار بن عبد الكريم بن حرثيا، أبو بكر، ويعرف بابن وحشية، لا يُعرف تاريخ ميلاده ولكن بعض المؤرخين ذكروا أنه وُلد بقرية "قسين" قرب مدينة الكوفة القديمة بالعراق، وعاش خلال العصر العباسي، وتوفي بعد سنة 291 هجرية، الموافق لـ914 ميلادية، وذلك بحسب ما جاء في "موسوعة التراجم" العربية.
برع ابن وحشية في العديد من المجالات العلمية كالكيمياء والفيزياء والرياضيات والفلك والزراعة، كما تعمق في دراسة الأديان واللغات القديمة، وترك ابن وحشية حوالي 50 مؤلفاً، ذكرها المؤرخ ابن النديم محمد بن إسحاق المعتزلي في كتابه الشهير "كتاب الفهرست".
ومن أشهر تلك المؤلفات "كتاب الفلاحة النبطية" الذي هو ترجمة لتعاليم زراعية لسكان العراق القدماء، والذي أثر كثيراً في مجال الزراعة وتقنيات الري في عصره، بحيث وصف فيه المئات من الأعشاب الجديدة وبيّن البيئة المثالية التي يجب أن تعيش فيها.
كذلك ألَّف ابن وحشية أيضاً مخطوطاً هاماً في الترجمة واللغات القديمة بعنوان "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام"، وهو مصنف احتوى على مقارنة بين العربية و89 لغة قديمة منها اللغة الهيروغليفية، والذي يوضح من خلاله أنّ لغة مصر القديمة ما هي إلّا رموز صوتية، فقام هو بتحليلها وتصنيفها.
مستشرق نمساوي وراء اكتشاف مخطوطة ابن وحشية
لم نكن هذه المخطوطة معروفة قبل أن يكتشفه المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر-برجشتال الذي قام بنشره على شكل كتاب بلندن في سنة 1806 مع نسخة مترجمة إلى اللغة الإنجليزية في العام نفسه.
يقول ابن وحشية في مقدمة كتابه الموجزة، كما وردت في النص الأصلي:
"الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.. آمين. وبعد: فإنه لما سلى من لا ترد دعوته إذا جمع له أصول الأقلام، التي تداولتها الأمم الماضية من الفضلاء والحكماء السالفين، والفلاسفة العارفين مما رمزوا بها كتبهم وعلومهم؛ لينتفع به الطالبون والراغبون للعلوم الحكمية. والأسرار الربانية ذاكراً القلم برسمه القديم. واسمه المشهور، وشرح حروفه بالقلم العربي تحته بالمداد الأحمر. ليمتاز عن الآخر. ورتبته على أبواب وسميته شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام.. وبالله المستعان".
أما المستشرق همر، قد أشار في نص مقدمته للنسخة الإنجليزية، "إنّ الكتاب يفترض من عنوانه بالعربية أنه لا يحوي سوى بيان الأبجديات المجهولة، فإنه يقدم إلى جانب هذا مفتاحاً للرموز الهيروغليفية، كما يقدم في نفس الفصل بياناً طريفاً عن طبقات الكهنة المصريين المختلفة وطقوسهم وقرابينهم".
كما نشر المستشرق الفرنسي أنطوان إيزاك سِلفستر دو ساسي في سنة 1810 بباريس دراسة عن كتاب ابن وحشية، بعدما وصلته نسخته العربية، وذلك دون الحاجة للنسخة الإنجليزية بحكم أنه كان أستاذاً للغة العربية منذ العام 1795 بمعهد اللغات الشرقية بباريس.
وقد كان جان فرانسوا شامبليون أحد تلاميذ أنطوان دو ساسي في اللغة العربية أثناء فترة دراسته بباريس (1807 إلى 1809)، ولذلك وعلى الرغم من أنه لم يكن متواجداً بالعاصمة الفرنسية أثناء صدور تلك الدراسة، من طرف أستاذه، حول كتاب "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام"، فإنّه يكون قد اطلع عليها مثلما يكون قد اطلع أيضاً على الكتاب بنسخيته العربية والإنجليزية؛ لكونه باحثاً شغوفاً بالحضارات الشرقية وبالخصوص المصرية القديمة.
"حجر رشيد" بداية فك شامبليون لرموز الهيروغليفية
وُلد الفرنسي جان فرانسوا شامبليون يوم 23 ديسمبر/كانون الأول 1790، أي بعد نحو 9 قرون من ابن وحشية، وكبر ونشأ وسط الكتب، بحكم أنّ والده كان يملك محلاً لبيع الكتب، ما جعله يتعلم القراءة بمفرده في سن الخامسة من عمره، دون الحاجة للذهاب إلى المدرسة.
كان شامبليون شغوفاً بتعلم اللغات الأجنبية منذ صغره، فسافر، لما بلغ من العمر 11 عاماً، إلى مدينة غرونوبل الفرنسية، حيث تكفل به شقيقه الأكبر جاك جوزيف، وتفرغ لدراسة اللاتينية واليونانية والعبرية والقبطية، ثم انتقل إلى باريس التي استقر بها من 1807 إلى 1809 لتعلم دروس في العربية والفارسية والسنسكريتية، بحسب ما جاء في الموسوعة الفرنسية La Rousse.
كما استغل شامبليون فترة تواجده بباريس لمحاولة فك الرموز المنقوشة على نسخة من "حجر رشيد" الذي كان سبباً في تعمقه في دراسة العلوم المصرية.
و"حجر رشيد" هو نصب من حجر الديوريت البركانية، بارتفاع 114 سنتيمتراً وبعرض 72 سنتيمتراً، مع مرسوم صدر في مدينة منف المصرية، في العام 196 قبل الميلاد نيابةً عن الملك بطليموس الخامس؛ حيث يظهر المرسوم في ثلاثة نصوص: النص العلوي باللغة الهيروغليفية، والجزء الأوسط بالهيراطيقية، والجزء الأدنى باليونانية القديمة.
وقد تم اكتشافه في "حصن رشيد"، على بُعد 70 كلم شرق مدينة الإسكندرية، في سنة 1799 على يد جندي فرنسي يدعى بيير فرانسوا بوشار خلال حملة نابليون بونابرت على مصر التي بدأت في 1798 وانتهت في 1801.
الهيراطيقية لغة بديلة للهيروغليفية
وفي سنة 1809 قدم شامبيلون نظرية حول الكتابة المصرية، يكشف من خلالها أنه ما بين الهيروغليفية والديموطيقية، توجد كتابة ثالثة وهي "الهيراطيقية"، والتي تعتبر بمثابة كتابة بديلة للهيروغليفية، بحيث كُتبت برموز مبسطة للرموز الهيروغليفية الأصلية.
وقد اتخذ من هذه النظرية مُنطلقاً لدراسات معمقة لفك رموز اللغة الهيروغليفية، مستعيناً في أبحاثه إضافة لحجر الرشيد على كثير من المخطوطات التي جلبتها حملة نابوليون بونابارت على مصر وتم نشرها بباريس في سنة 1809 على شكل 20 مجلداً فاخراً بعنوان "وصف مصر".
وعاد شامبيلون إلى غرونوبل، في يوليو/تموز 1809، ليعمل أستاذاً للتاريخ في جامعة المدينة وهو لم يتجاوز بعد الـ19 سنة من عمره، وهو المنصب الذي بقي به إلى سنة 1821، لكن مع فترة توقف من 1815 إلى 1818 بسبب ميوله السياسية الليبرالية الداعمة لنابوليون بونابرت الذي سقطت إمبراطوريته في العام 1815.
وبالموازاة مع عمله أستاذاً جامعياً واصل شامبيلون أبحاثه المعمقة في اللغات المصرية القديمة، حتى أصبح في مايو/أيار 1921 قادراً على ترجمة نص باللغة الديموطيقية إلى الهيراطيقية، ثم تحويلها (أي ترجمتها) بعد ذلك إلى الهيروغليفية، واكتشف أن الاسم المدرج في خرطوشة حجر رشيد هو "بطليموس"، وقد استنتج أن هذا الاسم مكتوب صوتياً في النص: (p-t-o-l-m-j-s).
وفيي العام التالي، أي في 1922 درس وتفحص جيداً النسخة المطبوعة من النقش الهيروغليفي لـ"مسلة فيلة" التي اكتشفها جامع الآثار الإنجليزي ويليام جون بانكس، فوجد أنّ النقش يتوافق مع نص يوناني محفور، فتحقق من أن اسم "كليوباترا" مكتوب تماماً مثلما أعاد بناءه من الديموطيقية.
ومنحت له الخرطوشتان "بطليموس" و"كليوباترا" 12 حرفاً مختلفاً من الحروف الهيروغليفية، وهي أساس متين لأي فك رموز، والتي سمحت له فيما بعد بالتعرف على ألكسندر، وتيبريوس، وجرمانيكوس، وتراجان، ورمسيس.
واستنتج في أواخر سبتمبر/أيلول 1822 أن العنصر الصوتي، إلى جانب العلامات الأيديوجرافية، هو أساس نظام الكتابة المصرية بأكمله، ما قاده في العام 1824 لنشر كتابه "الوجيز في النظام الهيروغليفي للمصريين القدامى".
وفي عام 1826، تم تعيين شامبيلون محافظاً للجناح المصري لمتحف اللوفر بباريس، ثم قام من عام 1828 إلى عام 1830، برحلة على طول ضفاف وادي النيل لاكتشاف ودراسة النقوش على الآثار، ثم عين أستاذاً لعلم المصريات بكلية فرنسا عام 1831 حتى وفاته في 4 مارس/آذار 1832 بسكتة دماغية.
وقد تم تخليد أبحاثه في علم المصريات من خلال كتب نشرها شقيقه الأكبر جاك جوزيف شامبيلون كـ"رسائل مكتوبة من مصر والنوبة" (1833) و"آثاره في مصر والنوبة" (1835-1845) و"قواعد اللغة المصرية" (1835-1841)، والقاموس المصري في الكتابة الهيروغليفية (1841-1843).