منذ أن اخترع الأخوان لوميير البدايات الأولى للسينما كابتكار ترفيهي ساحر، توالت تطورات هذا المنتج الجديد، وأصبح معبراً عن حالات الشعوب والمجتمعات، ومساهماً في التأريخ لما شهدته من تحولات سياسية واجتماعية وثقافية عميقة، كما وقع استغلالها فيما بعد لدوافع أيديولوجية وسياسية لخدمة النظم والتوجهات المختلفة؛ لتتحول إلى وسيلة تعبئة وترويج لقيم وأيديولوجيات مختلفة، وبالنظر لما لها من تأثير صنفت ضمن عناصر القوة الناعمة للدول، بحسبانها ناقلاً للأفكار وللآراء السياسية ومشوهة للآخر في أحيان عديدة.
الكحلة والبيضا
السينما الجزائرية شهدت فترتها الذهبية في السبعينيات وبداية الثمانينيات، مع فوز فيلم "وقائع سنين الجمر" بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وحصد أفلام جزائرية أخرى لجوائز عالية القيمة دولياً وعربياً، ولكن بالنسبة لي كمشاهد محب للأعمال السينمائية، وخاصة الجزائرية في عهدها المزدهر، فإن فيلم "كحلة وبيضا" أصنفه وفقاً لمعاييري الخاصة التي تخضع لقراءتي لإيحاءات ورسائل الفيلم، وما يبعثه في نفسي كمشاهد وكإنسان جزائري من مشاعر وعواطف (وذلك بغض النظر عن المعايير النقدية التي يختص بها النقاد السينمائيون المحترفون فقط)، كأحسن الأفلام الجزائرية، من حيث الفكرة والمضمون والتجسيد وحتى الموسيقى، والإبداع في تقديم الأدوار من طرف الممثلين، وخلق جو جزائري خالص طيلة أحداث الفيلم، مما يجعل كل جزائري متابع له يرى فيه انعكاساً لحياته ويومياته، وهموم عائلته ووطنه ككل طيلة عمر الفيلم الأيقونة.
تدور أحداث الفيلم في مدينة سطيف في الشرق الجزائري "عاصمة الهضاب العليا، ومدينة عين الفوارة"، وهي منطقة جزائرية عريقة ومضيافة، معروفة بأناسها الطيبين والعفويين، وباندفاعهم ولهجتهم القوية المحببة، وهي أيضاً موطن فريق كرة القدم المعروف جزائرياً وعربياً وإفريقياً "وفاق سطيف" الملقب بالنسر الأبيض، أو كما يحلو لعشاقه السطايفية مناداته بـ"لونطونط" وهي مقابل كلمة "الوفاق" باللغة الفرنسية، وهو النادي الذي وصل حتى للعالمية حين شارك في كأس العالم للأندية للمرة الأولى في تاريخه، والعنوان "كحلة وبيضا" مقتبس من ألوان الفريق السطايفي البيضاء والسوداء، الذي يعد رمزاً للمدينة ومصدر فخر لها بتاريخه وألقابه الكثيرة محلياً وإقليمياً، وشغف أنصاره الكبير به وبكرة القدم عموماً.
أبدع المخرج "عبد الرحمان بوقرموح" في اختيار الممثلين، وفي تقديم رؤية مميزة لفكرة كاتب السيناريو، وعلى مدار ساعتين استمتع المشاهد بمحطات تنتقل به من الهزل والفكاهة إلى النقد العميق المبطن منه والمباشر، ولعل أهم أسباب نجاح الفيلم وتميزه هو تمحوره حول الطفل البطل المدعو "الربيع"، الذي كسب قلوب كل الجزائريين بخفة دمه وحسن وعفوية أدائه ولهجته السطايفية، وهو يمضي في مغامرات مع عائلته وجيرانه بغية تحصيل المال الكافي لاقتناء كرسي متحرك لشقيقته "ساسية"، التي تعاني من مرض يمنعها من المشي، لتمكينها من التجول خارج المنزل وزيارة حقول القمح التي تعرف بها المنطقة، وأيضاً الأمل في حصولها على تكفل علاجي من طرف الدولة للتداوي في الخارج، خصوصاً أن عائلة الربيع فقيرة وبسيطة، ولكن أحد أفرادها "علي" هو نجم هجوم الوفاق ومعول عليه للفوز بكأس الجزائر لصالح الفريق والمدينة.
ينقل الطفل "الربيع" المشاغب والواعي في نفس الوقت وعبر مغامراته وعلاقاته بمحيطه، واقع المجتمع السطايفي ومنه الجزائري آنذاك، حيث كرة القدم كالعادة عشق ومتنفس للغني والفقير، وتحضيرات اللقاء النهائي والتنقل للعاصمة لمشاهدته تشغل الجميع، واجتهاد الفتى "الربيع" في جمع المال لأجل شقيقته المريضة، بين بيع البط والدجاج تارة، وبيع الأناناس تارة أخرى، ثم الاهتداء لفكرة بيع أقمصة عليها شعار الفريق لفائدة أنصاره استعداداً للنهائي، وبرفقته شقيقه الأصغر، وخاصة الطفل "كاماتشو" الأحدب، ابن رجل فقير يكد لكسب لقمة العيش ويستعين بولده في ذلك، ويستعين به "الربيع" أيضاً في خرجاته التجارية الصغيرة المتكررة، كل ذلك مرفوق بموسيقى تصويرية رائعة ومعبرة للموسيقيين الجزائريين الكبيرين "أحمد مالك" و"حسين قاسم"، لتكمل الطابع البانورامي للفيلم الذي يمكن وصفه بالملحمي إنسانياً واجتماعياً.
في مجتمع جزائري يعيش مخاضاً عسيراً مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، ينتقد الفيلم حالة التناقضات التي كانت تسود مجتمعاً يرفع شعار الاشتراكية ولكن يسوده التفاوت ونوع من الطبقية، وهو ما يتجلى في التناقضات ما بين أفكار شقيق "الربيع" الأكبر المثقف كما يصفونه في الفيلم، وبين الواقع الذي يعيشه "الربيع" في سعيه لمساعدة عائلته وخاصة عند بيعه لثمار الأناناس على قارعة الطريق، ففي نقاش دار بين "الربيع" و"رانغو" صديق شقيقه الأكبر، يستهزئ "الربيع" بالأفكار المثالية لـ "راغو" حول الاشتراكية الذي قال له إنه في ظل الاشتراكية لا وجود لفقير أو غني، فيجيبه الربيع بداية بالعبارة الجزائرية "فاقو" والتي تدل على كشف الاستغباء أو الخداع، ثم قال له: "أنا أظل أبيع الأناناس تحت أشعة الشمس الحارقة وأبناء الأغنياء "المركانتيلية" يأكلونها بسهولة، هل هذه هي الاشتراكية؟".
ويواصل الفيلم تصوير الحياة البسيطة لعائلة "الربيع" وكأنها ممثلة لحياة الكثير من الأسر الجزائرية، مع والده العامل البسيط، وأشقائه الأكبر الذين لا دخل لهم، ولا حيلة لهم في تحسين مستواهم المعيشي أو علاجه ابنتهم المريضة، خصوصاً أن "الربيع" قد أساء لابنة المسؤول عن تمرير ملف الطفلة "ساسية" للعلاج في الخارج، ولكن الفرج يأتي قبل لعب المباراة النهائية، ووعد مسؤولي الفريق لشقيقه المهاجم "علي" بالتكفل بشقيقته، ويقترب اليوم الموعود للمباراة وتضج المدينة بأكملها بحمى النهائي، ويستغل "الربيع" الفرصة ويبيع عدداً كبيراً من أقمصة الفريق ويجمع المبلغ المطلوب ويشتري الكرسي المتحرك لشقيقته "ساسية"، ويتمكن من إهدائها الجولة التي كانت تحلم بها في الحقول، قبل أن تنتقل مع الفريق لمتابعة اللقاء النهائي في الملعب، وتعيش المدينة أجواء مثيرة ولحظات عصيبة طيلة المباراة، إلى أن يتم تسجيل هدف الفوز وتنفجر المدينة فرحاً، وتنسى همومها ومشاغلها ولو لأيام، الكل يتعانق ويعبر عن فرحه بعفويته وطريقته الخاصة، بما في ذلك الشرطي اللطيف صديق الربيع، والذي أدى دوره الفنان الجزائري الكبير "سيد أحمد أقومي".
الخلاصة
وهكذا اجتمعت توابل فنية وإنسانية متعددة لتخرج للسينما الجزائرية رائعة "كحلة وبيضا"، التي أجمعت الأسر الجزائرية على حبه واعتباره أحد أفلامها التي يجتمع صغيرها وكبيرها لمشاهدته بشغف كبير في كل مرة يعاد فيها عرضه، وبعد أكثر من أربعين سنة من إنتاجه، رحل مخرج الفيلم والكثير من الممثلين البارزين فيه وعلى رأسهم الطفل "الربيع"، الذي كان الجميع يتوقع له مستقبلاً فنياً باهراً بعد أدائه الإعجازي، لولا أن عاجله القدر بنهاية سريعة، ولكن روح الفيلم وعبقه وتميزه لا تزال جميعها تمنحه صفة الفيلم المتفرد، بل والفيلم الأجمل فنياً وإنسانياً في تاريخ السينما الجزائرية على الأقل بالنسبة لي كرأي خاص، لا سيما أنه قد دمج بسلاسة واتساق بين الرياضة والسياسة والقضايا الاجتماعية والإنسانية والطابع الفكاهي والنقد اللاذع بشكل قل نظيره.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.