كان آشور بانيبال آخر ملك يحكم واحدة من أولى إمبراطوريات العالم، الإمبراطورية الآشورية. ولُقّب بأسد آشور وملك العالم لأن مملكته شهدت أكبر توسع إقليمي في عصره. أما اسمه فكان يعني "الإله آشور خالق الوريث".
ويحتار المؤرخون في وصف ملك آشور، فقد كان متعطشاً للدماء مثل جنكيز خان، وباني إمبراطورية عظيم مثل الإسكندر المقدوني، وطالباً شغوفاً بالأدب والعلم مثل ألفريد العظيم ملك السكسونيين.
رافقونا في رحلة تاريخية نتعرف فيها على ملك العالم، آشور بانيبال الذي بنى واحدة من أكبر مكتبات العالم وأرهب أعداءه بطرق التعذيب وحكم أعظم إمبراطوريات الأرض.
اهتم في شبابه بالعلوم والأدب ولم يكن وريث العرش المتوقع
كان بانيبال، ابن الملك اسرحدون، واحداً من خمسة إخوة وأخت واحدة. ولم يكن من المتوقع أن يصبح وريثاً للعرش لوجود أخ أكبر منه. لذلك، تم تدريب آشور بانيبال ككاتب وتعلم القراءة والكتابة بالإضافة إلى تعليمه الفروسية والصيد والفنون العسكرية والحرف اليدوية واللياقة الملكية.
كما عُرف عن بانيبال شغفه بمجالات العلوم والآداب المختلفة، بما في ذلك العرافة والرياضيات والقراءة والكتابة. ووفقاً لموقع New World Encyclopedia، كان آشور بانيبال الملك الآشوري الوحيد الذي أتقن القراءة والكتابة.
وعلى عكس المتوقع، توفي ابن اسرحدون الأكبر ووريثه، سين-ادينا-ابلا عام 672 قبل الميلاد، ما دفع الملك لتعيين ابنه الثاني، آشور بانيبال، خلفًا له. وأجبر الولايات التابعة له على أداء قسم الولاء مسبقاً له لتجنب أي ثورات على الخلافة في المستقبل بين الأخوة.
وبعد موت أسرحدون في إحدى حملاته العسكرية على مصر، تولى آشور بانيبال الحكم عام 668 وأمر بتتويج أخيه الأصغر، شمش شوم أوكين، على عرش بابل تنفيذاً لوصية والده ومنعاً لحدوث خلافات.
وبمجرد أن اطمئن بانيبال أن بابل والأراضي الجنوبية لامبراطوريته كانت آمنة تحت حكم أخيه، قاد جيوشه جنوباً نحو مصر لإنهاء ما بدأه والده والسيطرة عليها.
توسعات في جنوب مصر تسبب تمرداً على بانيبال ولكن تنتهي بانتصاره
عندما غزا آشور بانيبال مصر سنة 667 قبل الميلاد قاد جيشه جنوبًا حتى مدينة طيبة، مخضعاً كل مدينة متمردة في طريقه. وكان الحاكم الوحيد الذي نجا منه ملك مدينة سايس، نيخو، الذي ظل مواليًا لآشور.
وكي يضمن بانيبال أن نيخو سيحكم بما يتوافق مع قواعد إمبراطوريته، قام بتعليم ابن نيخو المسمّى، بسماتيك، في نينوى الطرق والمعتقدات الآشورية، ثم بعثه إلى والده ليحكم معه.
وبعد ذلك قسّم آشور بانيبال أراضي مصر التي سيطر عليها بين هذين الملكين، ثم عاد إلى آشور، اعتقادًا منه بأن مصر أصبحت آمنة.
لكن ابن شقيق الفرعون السابق ترهاقا في النوبة، تتنامي، أدرك ضعف مصر في ظل الحكم الجديد للملوك المشتركين وقرر اغتنام الفرصة لغزو مدنها.
سار تتنامي إلى مصر وأخذ كل مدينة في طريقه. ولكنه اشتبك مع القوات المصرية الآشورية في العاصمة ممفيس تحت قيادة الملك نخو. وعلى الرغم من أن بسماتيك كان قادراً على صد الجيش النوبي بنجاح، إلا أن والده نيخو قُتل في المعركة.
وبعد موته فضّل المصريون حكم النوبيين على الآشوريين، ما اضطر بسماتيك إلى الهرب والاختباء. وبعد أن وصلت أخبار التمرد إلى نينوى عاد آشور بانيبال على رأس قواته وسحق المتمردين مرة أخرى.
عين بعد ذلك آشور بانيبال بسماتيك فرعوناً لمصر، وقام بتجهيزه بحاميات آشورية متمركزة في نقاط استراتيجية، ثم عاد مرة أخرى إلى آشور في 665.
لكن في الفترة الممتدة بين عامي 665 و657، كان بانيبال مشغولاً في قمع حركات تمرد مختلفة وقيادة حملات توسعية للقضاء على أي جهة تهدد المصالح الآشورية. وأثناء مشاركته في هذه الحملات، كانت مصر تنزلق ببطء من بين يديه مرة أخرى.
حركات تمرد وخيانة سرية من أخيه وانتقام قاسٍ من بانيبال
لم يكن بسماتيك راضياً بالحكم كدمية آشورية يحركها بانيبال كما يريد، ولذا بدأ في تأكيد استقلاله عن آشور من خلال عقد صفقات مع حكام مصريين مختلفين والتقرب من ملك الأناضول.
وفي عام 653، بمساعدة ملك الأناضول، استطاع بسماتيك طرد القوات الآشورية من مصر وأسس عاصمته الجديدة في مدينة سايس. وعلى الرغم من أن أخبار هذه الثورة وصلت لآشور بانيبال، إلا أنه لم يعد لمصر حينها. فقد كان العيلاميون يشكلون خطراً أكبر على الإمبراطورية يجب القضاء عليه.
لم يكن بسماتيك الوحيد الذي حاول التمرد على بانيبال، فقد سئم شماش شوم أوكين أيضاً من كونه ملكاً تابعاً لأخيه آشور بانيبال وأرسل سراً لملك عيلام (الواقعة في إيران اليوم) طالباً الدعم في التخلص من حكم أخيه.
لكن آشور بانيبال لم يكن يعلم شيئاً عن مخططات أخيه، وكان يعلم فقط أن جيوش عيلام كانت تتجمع لشن هجوم على بابل فسار بجيشه إلى عيلام وهاجمهم.
هزم بانيبال العيلاميين ونهب مدنهم. وبحسب النقوش التي خلدت الانتصار، فقد قتل الملك العيلامي تيومان وابنه بسيفه وقطع رؤوسهم أمام بعضهم البعض. ثم أعاد الرؤوس إلى نينوى حيث علقها في حديقته كزينة، كما يشير موقع World History.
وبما أن آشور بانيبال لم يكن يعلم أن شقيقه دعا العيلاميين إلى بابل، استمر شمش شوم أوكين في حكمه.
أخوه يتمرد علناً، وبانيبال يحاصره 4 سنوات حتى أمات بابل جوعاً
في عام 652 أعلن أوكين التمرد علناً على أخيه بانيبال. واستولى على القرى والبؤر الاستيطانية الأشورية وطالب بها باسم بابل.
وعندما رد آشور بانيبال بسير جيشه إلى المنطقة، تراجع شمش شوم أوكين خلف أسوار بابل حيث حاصرته القوات الآشورية على مدى السنوات الأربع التالية.
تروي النقوش التي تعود إلى ذلك الوقت ما تحمله المدافعون عن بابل خلف الجدران بأنهم: "قد أكلوا لحم أبنائهم وبناتهم بسبب الجوع".
ولم يكتفِ بانيبال بذلك، فبعدما سقطت المدينة، قتل الجنود الآشوريون من بقي على قيد الحياة، وكتب آشور بانيبال في إحدى مخطوطاته الموثقة: "لقد قتلت من بقوا أحياء، وأطعمت أجسادهم للكلاب والخنازير والذئاب والنسور وطيور السماء وأسماك الأعماق".
ولأنه يعرف أن أخاه سيقوم بتنفيذ أقسى العقوبات به، قام شمش شوم أوكين بإضرام النار في نفسه داخل قصره هربًا من القبض عليه.
ثم قام آشور بانيبال بتعيين مسؤول حكومي آشوري على عرش بابل.
أخرج عظام الملوك من قبورهم وحرق المعابد ثم ترك عيلام بلد أشباح
في نفس الوقت الذي سقطت فيه بابل عام 648/647، اندلعت في مملكة عيلام، المتواجدة في إيران، حرب أهلية بعد أن مات ملكها وبدأت فصائل مختلفة تتنافس من أجل العرش.
رأى آشور بانيبال في ذلك فرصة لهزيمة عدوه القديم الذي حاول مهاجتمه وقاد جيشه مرة أخرى إلى عيلام.
كتبت المؤرخة سوزان وايز باور في كتابها تاريخ العالم القديم عن غزو بانيبال لعيلام: "احترقت المدن العيلامية وتعرضت المعابد والقصور للسرقة. ورغبة منه في الانتقام، أمر آشور بانيبال بفتح المقابر الملكية وأخرج عظام الملوك وسباها كما يسبى الأحياء".
وأي شخص كانت لديه أدنى مطالبة بالعرش تم أسره وإعادته إلى نينوى كعبد. وتماشياً مع السياسة الآشورية، قام آشور بانيبال بعد ذلك بنقل أعداد هائلة من السكان في جميع أنحاء المنطقة وترك المدن خاوية على عروشها.
لكنه بذلك ترك عيلام مفتوحة وغير محمية، ما سيجعلها لاحقاً مطمعاً للفرس ببطء ليعيدوا تحصينها والاستيلاء عليها.
مكتبة آشور بانيبال
بعد تدمير عيلام، لم يتبقِ لبانيبال منافس يهدد الإمبراطورية الآشورية في ذلك الوقت. وعلى الرغم من إعلان مصر استقلالها، إلا أنها كانت لا تزال مطبوعة بالثقافة الآشورية.
وبعد استقرار امبراطوريته، وجّه آشور بانيبال انتباهه إلى شغفه القديم بالعلوم والأدب مؤسساً مكتبته الشهيرة التي ضمت أكثر من 30 ألف لوح طيني في نينوى.
ضمت المكتبة أعظم الأعمال التي تم العثور عليها مثل، ملحمة الخلق البابلية والحكاية الملحمية العظيمة لجلجامش. كما تم العثور على قصة بلاد ما بين النهرين الأصلية عن الطوفان العظيم، والتي تسبق القصة في الكتاب المقدس في مكتبة آشور أيضاً، وفقاً لموقع The Economist.
وبذلك اعتبر المؤرخون مكتبة نينوى التي أسسها آشور بانيبال أحد أكبر المكتبات في التاريخ وواحدة من أهم الآثار القديمة.
ولم يكن بانيبال مهتماً فقط بتجميع المخطوطات والكتب الشهيرة، ولكن كان يحرص على حصوله على نسخة من أي عمل تتم كتابته في بلاد ما بين النهرين.
وكان ملك آشور يتفاخر بمكتبته ويعتبرها الإنجاز الأعظم في عهده، وقد كتب في إحدى المخطوطات التي تركها:
"أنا، آشور بانيبال، ملك الكون، الذي منحته الآلهة ذكاءً، والذي اكتسب فطنةً ثاقبةً، لقد جمعت هذه الألواح في المكتبة في نينوى من أجل حياتي ورفاهية روحي، وللحفاظ على اسمي الملكي. قد يكون والدي اسرحدون استطاع الحفاظ على مصر، لكن العلم الذي جمعه آشور بانيبال سيخلد إلى الأبد".
موت بانيبال وسقوط الإمبراطورية بعد انقسامها
واصل آشور بانيبال قيادة حملاته العسكرية التوسعية، وبلغت إمبراطوريته أكبر توسع إقليمي في عهده لتضم بابل وبلاد فارس وسوريا ومصر.
لكن بحلول عام 629، كان بانيبال في حالة صحية سيئة، وغادر نينوى إلى مدينة حران في الشمال تاركاً الإمبراطورية في يد ابنه آشور إتيل إيلاني. لكن هذا القرار أثار ضغينة الأخ التوأم للملك الجديد، ما تسبب في اندلاع حرب أهلية بينهما.
بدأت أراضي الإمبراطورية الآشورية تتقسم والكثير من المناطق أعلنت الاستقلال الذاتي. وبعد وفاة آشور بانيبال عام 627، تفككت الإمبراطورية بعد أن عمَّت الفوضى في كل جزء منها.
تلاشت الإمبراطورية تدريجياً مع هجمات الفرس والبابليين والسكيثيين والكلدان الذين قاموا بحرق المدن الآشورية ونهبها.
وفي عام 612، تم تدمير مدن آشور ونينوى في حرائق كبيرة اجتاحت الأرض. ودُفنت مكتبة آشور بانيبال تحت الجدران المحترقة للقصر وفقدت لأكثر من 2000 عام حتى اكتشفت مرة أخرى في القرن التاسع عشر لتثبت بالفعل أنها كانت أعظم إنجازات آخر ملوك آشور.