"عبودية الأجر" كما تحدث عنها المفكر الألماني كارل ماركس هي مشكلة المجتمع الحديث، والمواطن البسيط الذي ينتمي إلى الطبقة الكادحة، والذي يجد نفسه في قبضة نظام اقتصادي يُحتّم عليه بيع وقته ومجهوده وعمله مقابل قدر زهيد من المال، يخوّل له الحصول على أبسط احتياجات العيش الكريم.
يضطر هذا الكائن إلى الكدح لكي يتسنى له البقاء على قيد الحياة، ويتخلى عن حاجاته البيولوجية مثل الراحة وقضاء الحاجة والغذاء السليم والمتوازن إن اضطر إلى ذلك، وكل هذا لأجل الحفاظ على ذلك الأجر الزهيد الذي يضمن له أساسيات العيش، التي يُفترض أنها حقوق مشروعة لكل إنسان على وجه الكرة الأرضية.
"عبودية الأجر" إذاً تخلق إنساناً متكلاً على استغلاله، وتقيده فكرياً، وتمنعه من أن يثور على الظلم الذي يتعرض له. يصبح العامل في حاجة ماسة لأن يبقي هذه "العلاقة السامة" التي تربطه بمستخدميه، لأجل الهدف الأسمى الذي يكمن في البقاء. وينتج عن هذا الارتباط الذي يزداد متانة وقوة مع مرور الوقت انعدام الوعي، وبالتالي عدة معيقات تحول دون قيام ثورة من شأنها أن تقلب ميزان القوى، وتحرر الطبقة العاملة من "عبودية الأجر".
عندما يغيب الوعي بواقع الأمر بين صفوف العمال الكادحين، يصعب الحديث عن ثورة أو تنظيم لها، الأمر الذي يصب بمصلحة أصحاب الشركات والرساميل، الذين يقتاتون على جهل العمال بحقوقهم، أو اكتفائهم بالعمل النقابي المنظم قانونياً، والذي لا يحمي المستخدمين كلياً من الاستغلال، وإنما يخلق وهماً بتحقيق العدالة لدى العمال المعنيين بالأمر دون محاسبة، ولا مساءلة لأصحاب الرساميل.
إن السبيل نحو التحرر من العبودية محفوف بالصعاب والعقبات، فالوعي الشعبي يكاد يكون منعدماً بفعل التعود، والتطبيع مع الاستغلال، والفقر المدقع، والشركات الكبرى متعددة الجنسيات تستغل رخص اليد العاملة في دول الجنوب، وتتحايل على الأخلاقيات المتعارف عليها لتحقق أكبر قدر ممكن من الربح. وفي خضم كل تلك المؤامرات والتلاعب السلس بالقوانين يبقى العامل الحلقة الأضعف، ويستمر استغلاله وتضليله عن الحقيقة، التي لا بد أن يدركها يوماً: أن النظام يصب لصالح واضعيه لا غير، وأن عمله وجِده لن يُجازى بثروة ضخمة تغنيه عن العمل لبقية حياته، وإنما هو وسيلة لإثراء أصحاب الشركات وحماية القوة الاقتصادية التي يكتنزها هؤلاء. وبالرغم من أنني أؤمن إيماناً قاطعاً بأن الوعي البروليتاري لا بد له أن يتحقق، فإنني أخشى تدخل الرأسماليين من خلال وسائل إعلامهم لتأخير هذا الوعي، فنادراً ما نجد منصات إعلامية وإخبارية ليست ملكاً لرجال الأعمال وأصحاب الأموال. إذا تمكنت وسائل الإعلام من نشر القيم الليبرالية الغربية في مجتمعات شرقية فلا شك في قدرتها على التلاعب بوعي العمال في المجتمعات الغربية كما في دونها من المجتمعات.
يولد الوعي البروليتاري من رحم الواقع المعاش للعمال والظلم والاستغلال الذي يتعرضون له، لكن عدداً كثيراً منهم يفضلون الوهم الذي يُباع لهم بأرخص الأثمنة، ويستسلمون لوعود وإغراءات مَن استعبدوهم، ويقبلون اغترابهم عن طبيعتهم الإنسانية، والتي هي الإبداع والسمو بالذات وبأفكار المرء. قد يبدو للمتمعن في التفكير أن هذه الأفكار التي يجري وصفها بالراديكالية في عصر النيوليبرالية تمثل أساس العيش بكرامة، والارتقاء لدرجة الإنسان، والكائن العقلاني الحر، الذي ينبغي لنا أن نطمح لنكونه، خاصة في مجتمعنا العربي، ولكن تاريخاً من التفوق الغربي والإمبريالية التي صاحبها تلقين صارم لمبادئ الرأسمالية من جانب المستعمر، وعقدة النقص التي تبنيناها تمنعنا من أن نبلغ الحرية الاجتماعية والاقتصادية التي نستحق؛ لكوننا بشراً أولاً وقبل كل شيء. ينبغي لنا أن نترك الكسل الفكري، وأن ننفتح على التاريخ، ونرفض أن يتحكم في مصيرنا كل من لا شأن له به، فلا الاتحاد الأوروربي، ولا دول الناتو تملك الحق في تقرير مصيرنا، وفرض نظام اقتصادي مستهلك، ومرتكز على الربح المادي علينا، فقد ولّى زمن الخضوع للإمبريالية، وللنظام الكولونيالي، وبات المفكر العربي قادراً على رصد السم المدسوس في بيانات "حقوق الإنسان"، والعقوبات الاقتصادية، التي ليست سوى حرب بطيئة الوتيرة، قد شنتها دول الغرب على كل الجهات والقوى التي تتجرأ وتقاوم الهيمنة الغربية.
إن مقاومة القوى الاستعمارية والتفوق الغربي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنضال العمال في العالم بأسره، فالرأسمالية هي التي مهدت الطريق للعهد الكولونيالي الذي عانت خلاله الحضارات غير الغربية الأمرّين، وهي التي تواصل استخدام النيوليبرالية في حربها ضد عمال العصر الحديث، وفي حمايتها لسلطة النخبة الـ(1%).
يستحيل حصر النضال لأجل امتلاك العمال وسائل الإنتاج في منطقة معينة في العالم، وإقصاء العمال في غيرها من المناطق؛ لأن النضال البروليتاري هو نضال عالمي، ونضال لأجل الإنسانية، ولأجل الطبيعة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.