كان يجلس منكمشاً في المقعد الأخير من الصف، يلتصق بالجدار كأنه جزء منه، ملابسه غير نظيفة، شعره أشعث، أظافره طويلة شديدة القذارة كحال بقية يديه، يشتكي منه المعلمون دائماً، بسبب ممارسته العنف الجسدي واللفظي ضد زملائه في الصف والمدرسة.
لا يعرف الأحرف ولا الأرقام، رغم أنه في الصف السابع، وقد رسب ثلاث مرات في الصف ذاته، بينه وبين المواد الدراسية عداء شخصي، لا أظنه قابلاً للتغيير والتبديل، إنْ اقتربتَ منه وتحدثتَ إليه صمتَ صمتاً تاماً، كأنه شجرة تتحرك أوراقها وأغصانها دون أن تنطق بحرف أو كلمة.
أسأل نفسي مستنكرة: سأفترض أن درجة ذكاء هذا الشخص متدنية، ولكنه في الوقت ذاته لا يعاني من أية إعاقات عقلية تقف حائلاً بينه وبين التعلم، فما الذي يمنعه من أن يعرف الأحرف ويركِّب منها كلمات يقرأها أو يكتبها، كما لا يعرف الأرقام ولا يستطيع التعامل معها، بعد عشرة أعوام أمضاها في مكان يُعلّم القراءة والكتابة والحساب وبقية العلوم، هل يُصدق أن هذا لا يزال يحدث مع بشر، في وقت فعل فيه بشر آخرون عجائب وغرائب وبلغوا مستحيلات؟!
وبما أن الحياة متتاليات يرتبط بعضها ببعض، فلنوجّه أنظارنا قليلاً إلى الوضع الأسرى الذي يصعب وصفه لهذا الفتى.
يسكن الفتى مع أسرة قوامها ثمانية من الأبناء، إضافة إلى والدين أُمِّيين، مدخنين بشراهة، في سقيفة من الزينكو، يتشاركونها مع الدجاج والبط والأرانب والحمام، ويحرس باب البيت كلب كبير الحجم، مثل ذئب يُكشر عن أنيابه، نابحاً إن ولج أحد المسافة الشخصية لهذه الأسرة وسقيفتها.
وليت الأمر يقتصر على ذلك، بل تعدّاه، فداخل البيت عالَم آخر من الانهيار الأسري والتشرذم، فلا توجد رعاية للأبناء أو اهتمام بشؤونهم، كل فرد مسؤول عن ذاته، لا اهتمام بالتعليم، ولا حتى بالاحتياجات الأساسية التي لا غنى عنها من ملبس ومأكل ومسكن. كثيراً ما يتغيّب الأبناء عن مدارسهم ليعملوا ويحصلوا على بعض النقود. ثم يعودون إليها بعد انتهاء ورشة التشغيل. العنف والإهمال هما السمتان البارزتان بين أفراد الأسرة، حتى بين الوالدين.
* جهل والديْن يجرُّ وراءه إرثاً ثقيلاً وعبئاً لا ينقص مجتمعنا المُثقل بالأعباء.
****************
طفلة جميلة، نظيفة، مرتبة، عيونها تلمع ذكاءً وفطنة، متفوقة في دروسها، من أدواتها المدرسية تُدرك أنها ابنة لأسرة ثرية. كل شيء يخصها كان على أفضل حال، حتى ذلك اليوم الذي حضرت فيه مصابة بالتهاب في الحلق وسعال وحرارة خفيفة. ما إن انتهت الحصة الثالثة وخرجت التلميذة إلى ساحة المدرسة، بعد أن قرع الجرس، حتى شرعت الطالبات يصرخن بمناداة المعلمات.
كانت التلميذة تستلقي أرضاً، غائبة عن الوعي، جسدها متشنج، من فمها تخرج رغوة بيضاء، ووجهها محتقن. رجح لدى المعلمة المسؤولة عن الصحة أن تكون نوبة صرع، استُدعيت طواقم الإسعاف، وتم الاتصال بأم التلميذة التي حضرت على الفور. الشيء العجيب المحزن أن الأم تصرفت بقسوة غريبة لا توصف، سحبت التلميذة من يدها بعنف، محاولة أن تجعلها تقف على قدميها، وشتمتها ثم قالت: "كفاكِ دلعاً.. لن يأبه لك أحد". وأخذت تجرّها على الأرض مثل حزمة من الحطب، تدخلت المعلمات لمنعها، ولكنَّ الأم قالت: "ابنتي وأنا حرة فيها، كل ما في الأمر أنها دلوعة، وتريد لفت الانتباه إليها، دون أن تُدرك أن هذا يسبب لها ولنا فضيحة في مجتمع القرية".
رفضت الأم أن تتدخل طواقم الإسعاف في الأمر، ومضت بابنتها إلى البيت.
* لا تزال شعوبنا تتعامل مع المرض على أنه لعنة أصابتهم، عليهم إنكارها وإخفاؤها بالكامل. ومن المعيب والعار أن يعلم مَن حولهم أنهم مصابون بمرض مزمن، ووصل الحال بكثيرين منا أن يسموا الأمراض بمسميات تُخفف من وطء المرض (فالصرع يسمونه مثلاً: شحنات كهربائية زائدة… وهكذا).
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.