ربما كانت زلة لسان أن يستخدم الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن وصف "وحشي وغير مبرر" للإشارة إلى غزو العراق، في معرض حديثه عن الهجوم الروسي على أوكرانيا، لكن المؤكد هو أن الجريمة أصبحت كابوساً يطاردهم إلى الأبد.
كان بوش الابن يلقي كلمة خلال حفل في دالاس الأربعاء 18 مايو/أيار، وقال: "النتيجة هي غياب الضوابط والتوازنات في روسيا، وقرار رجل واحد شنَّ غزو وحشي غير مبرر بالمرة للعراق". وصمت بوش قليلاً وهز رأسه قائلاً: "أقصد لأوكرانيا".
"75 عاماً!"، قالها بوش وهو يهز رأسه مازحاً، في إشارة إلى أن السبب في ذلك "الخطأ" أو "زلة اللسان" هو تقدمه في العمر، وانفجر الجمهور بالضحك. لكن وصف جورج دبليو بوش لغزو العراق بأنه "وحشي وغير مبرر" قطع آلاف الأميال في لمح البصر ونكأ، في العراق وحول العالم، جراحاً لم تندمل بعد رغم مرور نحو 20 عاماً عليها.
نعم، غزو العراق كان "غير مبرر" بالمرّة
يصف الأمريكيون الهجوم الروسي على أوكرانيا بأنه غزو وحشي وغير مبرر، بينما تقول موسكو إنها عملية عسكرية خاصة تهدف إلى منع عسكرة كييف. وهناك اتهامات موجهة للأمريكيين بأنهم أحد أسباب إشعال تلك الحرب بهدف احتواء روسيا وحرمان فلاديمير بوتين من استعادة مكانة روسيا كقوة عظمى على الساحة الدولية.
على أية حال تظل الأزمة الأوكرانية، في طبيعتها، أزمة جيوسياسية عنوانها مناطق النفوذ بين حلف الناتو بزعامة أمريكا من جهة وروسيا من جهة أخرى، وهذه هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة حتى الآن على الأقل، بحسب جميع الخبراء والمحللين في الشرق والغرب، وسواء كانوا يتبنون وجهة نظر بوتين أو وجهة نظر بايدن والغرب.
لكن القرار الأمريكي بغزو العراق لم يكن له ما يبرره على الإطلاق، بل كان قرار إدارة جورج دبليو بوش، التي فشلت في إقناع العالم بمبرراتها، ورغم ذلك أقدمت على غزو دولة ذات سيادة وهي العراق على أية حال.
ففي يوم 5 فبراير/شباط عام 2003، وقف كولن باول أمام مجلس الأمن عارضاً ملفاً كان الغرض منه إظهار "أدلة موثوقة" على وجود أسلحة دمار شامل في العراق، رغم كونه وزير الخارجية وقتها، ولم يكن دوره يستدعي أن يقوم بنفسه بعرض "ذلك الملف الاستخباراتي".
كانت إدارة جورج بوش الابن قد استغلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 على الأراضي الأمريكية لإطلاق ما وصفتها بأنها "الحرب على الإرهاب"، وغزت أفغانستان بعد أقل من شهر على الهجمات الدامية تحت ذريعة رفض حركة طالبان وقتها تسليم قيادات تنظيم القاعدة الذي تبنى الهجمات.
ثم أراد بوش الابن أن يغزو العراق كذلك، لكن لم تكن هناك أسباب يمكن توظيفها لتبرير ذلك الغزو ولو من ناحية الشكل. فالنظام العراقي بزعامة صدام حسين، لم تكن له علاقات من أي نوع بتنظيم القاعدة.
وهذا ليس تحليلاً من معارضين للغزو، بل معلومات أدلى بها كولن بأول، وزير خارجية أمريكا وقتها، الذي قال في مقابلاته المتعددة بعد مغادرة منصبه، إنه لم يكن "متحمساً" لغزو العراق، مؤكداً أنه لم يطّلع على أي شيء يشير إلى وجود علاقة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة.
أسلحة الدمار الشامل.. "كذبة القرن"
وسعى بوش وإدارته ومسؤولوه لترويج ما أصبحت توصف بأنها "كذبة القرن"، أي امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، لكن المعارضة الشرسة لتلك الذريعة، سواء خارجياً أو حتى داخل الولايات المتحدة نفسها وحليفتها بريطانيا، لم تمنع إدارة بوش من "فبركة" الأدلة.
وهكذا وقف كولن باول بمجلس الأمن الدولي في فبراير/شباط 2003 وقدّم عرضاً مدعماً بصور أقمار صناعية وتقارير استخباراتية زعمت ملاحقة شحنة من مكونات تستخدم في تصنيع أسلحة بيولوجية وقنابل إشعاعية "قنابل قذرة" من النيجر في إفريقيا حتى وصولها إلى العراق وتخزينها في منشآت لتصنيع تلك الأسلحة وتخزينها، مقدماً صوراً لتلك المواقع المزعومة.
لكن باول، الذي قتله فيروس كورونا في أكتوبر/تشرين الأول 2021، قال لاحقاً عن ذلك العرض: "لقد كان خطأ رهيباً. وصمة سوف تظل مرتبطة بتاريخي المهني. لقد كان مؤلماً. لا يزال مؤلماً حتى اليوم. وسيظل مؤلماً حتى النهاية"، في إشارة إلى ما قام به من تقديم "معلومات مفبركة وأدلة لا أساس لها من الصحة" على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، مؤكداً أن "هذا يجعل نظام صدام يمثل تهديداً خطيراً ومباشراً على الولايات المتحدة ومصالحها"، بحسب مقابلة معه أجرتها شبكة ABC الأمريكية عام 2005.
لكن موقع The Intercept الأمريكي، وبعد 15 عاماً من غزو العراق، نشر تقريراً عنوانه "كذبة بعد كذبة.. ما الذي كان يعرفه كولن باول عن العراق قبل 15 عاماً وما الذي قاله للعالم؟"، رصد تفاصيل ما حدث وأعاد تقديم الأدلة الموثوقة على أن "باول كذب على العالم بشكل واعٍ تمام".
غزو العراق كان "وحشياً" أيضاً!
لم يكن هناك أي مبرر لغزو العراق إذاً، فهل كان ذلك الغزو وحشياً؟ الإجابة يفضحها ليس فقط ماضي العراق قبل نحو 20 عاماً عندما حدث الغزو، بل حاضر البلاد الآن أيضاً، إذ أوقع الغزو الأمريكي بلاد الرافدين في حقبة دامية في تاريخ البلاد.
الغزو الأمريكي نفسه أوقع، بحسب التقارير الأمريكية نفسها، أكثر من 100 ألف مدني، وتلك تقارير متحفظة للغاية وتتحدث فقط عن الفترة من 2003 وحتى 2011، وهو التاريخ الذي أعلنت فيه أمريكا الانسحاب من العراق. لكن الخراب والدمار والفوضى التي خلفها الغزو الأمريكي، من الصعب حصرها بدقة.
فمن فضائح سجن أبو غريب، إلى تغذية الطائفية في البلاد ونهب خيراتها من النفط والغاز والموارد الطبيعية الأخرى، إلى فرض نظام حكم قائم على المحاصصة الطائفية فتح الباب أمام استشراء الفساد ودمر البنية التحتية للعراق وأسقطها في قبضة الميليشيات المسلحة، لتتحول البلاد إلى ساحة صراع مفتوحة بين طهران وواشنطن حتى الآن.
وفي هذا السياق، أثارت "زلة لسان" جورج دبليو بوش، الذي كان قد تعرض للقذف بالحذاء في رأسه من جانب صحفي عراقي في ديسمبر/كانون الأول 2008، عاصفة من الغضب عبر منصات التواصل الاجتماعي في العراق وعبر العالم العربي.
وتداولت وسائل إعلام عربية عديدةٌ مقطع الفيديو المذكور. وعلى منصات التواصل، علق صحفيون وباحثون مهتمون بالعالم العربي على المقطع وقاموا بمشاركته على حساباتهم، بحسب تقرير لموقع فرانس24 الفرنسي.
واعتبر الحقوقي اللبناني عمر نشابة، في تغريدة، أن "جورج بوش قالها بنفسه واختصر كل التقارير والتحقيقات والكتب والخلاصات، وعرّف بشكل واضح، طبيعة الإدارة الأمريكية. شكراً بوش للاختصار".
فيما رأى الإعلامي العراقي عمر الجنابي، في تغريدة أيضاً، أن "شبح غزو العراق وتدميره يلاحق بوش الابن، وعقله الباطن يفضحه عندما تفوّق على لسانه، ليؤكد الأخير أن ما جرى في العراق أبشع بألف مرة من الذي يجري في أوكرانيا".
وفيما لم يعلق سياسيون كبار أو سلطات البلاد على الأمر، قابل العراقيون على موقع فيسبوك الموقف بمرارة. وكتب المستخدم حمزة قصي: "الآن تبين الحق من الباطل وإن غزو العراق كابوس يعيش معك طول الحياة وتشعر بعذاب الضمير".
وكتب عصام الوسمي، من جهته: "صدقت الآن، وكذبت وتكلمت بتفاهات عن العراق في السابق". وكتب ناهض التميمي: "ستبقى جريمة احتلالكم للعراق وتدميره كابوساً يؤرق مضاجعكم ويؤنّب ضمائركم الميتة يا مجرمين".