منذ اكتشافها النفط قبل عقود؛ سارعت قطر في ضخ كمياتٍ أكبر من الغاز الطبيعي إلى كثير من الدول حول العالم؛ لتجمع بذلك ثروةً ضخمة، وتكتسب أهميةً جيوسياسية كبيرة، لكن نفوذها على وشك أن يكبر أكثر الآن، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى الحرب الدائرة في أوكرانيا.
إذ بدأت أنظار الغرب تتجه صوب قطر بحثاً عن موردٍ بديل لتدفئة المنازل الأوروبية وطهي الطعام وتوليد الكهرباء، بالتزامن مع سعي الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا لحرمان روسيا من دخلها المعتمد على النفط والغاز، بحسب تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
ومع أن قطر لا تستطيع شحن الكثير من الغاز الإضافي إلى أوروبا بشكلٍ فوري؛ لأن غالبية إنتاجها مرتبطٌ بعقودٍ تتجه إلى أماكن أخرى؛ لكنها تستثمر مليارات الدولارات حالياً من أجل زيادة الإنتاج بمقدار الثلثين تقريباً بحلول عام 2027.
ومن المحتمل أن يذهب نحو نصف هذا الإنتاج الإضافي إلى أوروبا بحسب تصريحات سعد الكعبي، وزير الدولة القطري لشؤون الطاقة ورئيس شركة "قطر للطاقة" النفطية الحكومية.
بينما قالت سينزيا بيانكو، زميلة أبحاث منطقة الخليج في مؤسسة European Council on Foreign Relations البحثية: "أصبحت كل الظروف مهيأةً أمام قطر لتصبح من أهم مصدري الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا".
ولا شك أن الزيادة المفاجئة في الاهتمام بالغاز القطري تُمثل تحوّلاً كبيراً بالنسبة لبلدٍ اعتاد في السنوات الأخيرة على انتقاد قادة الغرب للوقود الأحفوري، بسبب إسهامه في أزمة تغير المناخ.
الدول الغربية من انتقاد الغاز إلى البحث عنه
لكن قادة الغرب بدأوا الآن في التسابق من أجل الحصول على الغاز الطبيعي.
ويرجع هذا التحول جزئياً إلى قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالهجوم على أوكرانيا في فبراير/شباط. وبدأت الدول الأوروبية بعدها في التسابق من أجل العثور على موردين آخرين للوقود بهدف وقف تمويل آلة حرب بوتين، حيث حصلت تلك الدول على نحو نصف واردات غازها الطبيعي من روسيا في العام الماضي؛ ما أدى بالتبعية إلى زيادة شعبية قطر.
فمع تزايد المخاوف من الهجوم الروسي في يناير/كانون الثاني، أعلن الرئيس بايدن تصنيف قطر "حليفاً رئيساً من خارج حلف الناتو". ثم استضاف الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، داخل البيت الأبيض في أول زيارةٍ من نوعها لرئيس دولةٍ خليجية في عهد بايدن. وقد حظيت قضايا الطاقة بالأولوية على رأس جدول أعمال الزيارة.
وبعد اندلاع الحرب، اتصل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بالشيخ تميم لمناقشة "ضمان استدامة إمدادات الغاز" وغيرها من القضايا. علاوةً على سفر قادة أوروبيين بارزين إلى قطر لمناقشة مسألة الطاقة، ومن بينهم مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل فونتيليس، ووزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، الذي أراد مناقشة توقيع صفقة غاز مع قطر.
لكن قدرة قطر على تخفيف أوجاع الغاز الأوروبية تُعتبر محدودةً على المدى القريب؛ إذ يرتبط نحو 85% من إنتاجها الحالي بعقودٍ طويلة الأمد غالبيتها في آسيا، وفقاً للكعبي.
ومع ذلك فإن الاستثمارات القطرية في مجال الغاز الطبيعي المسال خلال السنوات المقبلة ستتوافق على الأرجح مع اضطرابات الطاقة التي أحدثتها الحرب في أوكرانيا؛ ما سيزيد تقارب الدوحة مع أوروبا، ويُكسبها الاستحسان في واشنطن أيضاً، بحسب المحللين.
مشاريع قطر للغاز
إذ بدأت قطر قبل سنواتٍ من الحرب الجارية مشروعاً بتكلفةٍ تقديرية تبلغ 45 مليار دولار لبناء محطتي غاز جديدتين، وزيادة قدرة الإنتاج السنوية بنسبة 64%، وفقاً للكعبي. وسيبدأ ضخ هذا الغاز إلى السوق في عام 2026، وسيجري تقسيمه على الأرجح بين المشترين في أوروبا وآسيا.
بينما استثمرت قطر حالياً في بناء منصات لاستقبال الغاز الطبيعي المسال داخل بلجيكا، وبريطانيا، وفرنسا.
ولم تكن ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، تمتلك منشآت خاصة بالغاز الطبيعي المسال قبل الحرب. لكن ألمانيا خصصت الآن أكثر من 3 مليارات دولار لشراء 4 منصات عائمة. بينما تعكف فرنسا وإيطاليا على دراسة خيارات مشابهة.
ويقول ديفيد روبرتس، أستاذ العلاقات الدولية المساعدة في كلية كينغز لندن، إنّ مسؤولي قطر اكتشفوا الغاز الطبيعي للمرة الأولى في المياه الإقليمية مطلع السبعينيات. لكنهم أُصيبوا بخيبة أمل لأنهم اكتشفوا الغاز بدلاً من النفط الذي كان يُحدِث تحولاً كبيراً في اقتصاد الجارتين، السعودية والكويت.
وأوضح روبرتس: "لم يرغب أحد في الغاز الطبيعي خلال الـ20 عاماً الأولى؛ لأنهم لم يتصوروا وجود سوقٍ لهذه السلعة"، ولهذا تركوا غالبيته في باطن الأرض.
ثم جاء التقدم التقني ليفتح الأبواب أمام فرصةٍ جديدة. وفي التسعينيات، بدأت قطر والشركاء الدوليون في ضخ مليارات الدولارات من أجل إنشاء صناعة الغاز الطبيعي المسال.
وكان يُنظر إلى الغاز الطبيعي المُسال في البداية على أنه رهانٌ باهظ التكلفة ومحفوفٌ بالمخاطرة. لكن سوق الوقود الجديد بدأ يكبر لأنه يُصدر انبعاثات أقل من أنواع الوقود الأحفوري الأخرى، ونجحت قطر في استغلال هذا السوق على أوسع نطاق.
وأوضح روبرت: "تستمر هيمنة قطر على السوق في الارتفاع يوماً بعد يوم. وقد نجحوا في بناء أفضل وأرخص عمليات إنتاج الغاز الطبيعي المُسال الموجودة حالياً". ما أدى إلى تدفق الأموال على الاقتصاد القطري، وجعل سكانها من أصحاب أحد أعلى معدلات الناتج القومي للفرد في العالم.
قطر ولعب دور الوساطة
وتحافظ قطر على علاقاتها الدبلوماسية مع جماعات ودول متنازعة، ما يسمح لها بلعب دور الوساطة بينها.
وتستضيف قطر العديد من شركات الطاقة الغربية، بالإضافة إلى أكبر قاعدةٍ عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط. لكنها تحتفظ في الوقت ذاته بعلاقةٍ مقربة مع إيران، التي تتشارك معها في حقل غازٍ بحري.
وفي الأسبوع الماضي، التقى الشيخ تميم بمسؤولين إيرانيين في طهران من أجل دفع المفاوضات الخاصة بإحياء الاتفاق الدولي المتعلق ببرنامجهم النووي، الذي يمثل أولويةً لإدارة بايدن.
كذلك تستضيف قطر مسؤولين بارزين في حركتي حماس وطالبان. وقد أثنت عليها إدارة بايدن العام الماضي لأنها ساعدت في عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، حين رحبت بالأمريكيين وشركاء الولايات المتحدة الذين غادروا أفغانستان.
بينما قال جيم كرين، الباحث المتخصص في سياسات الطاقة بمؤسسة Baker Institute for Public Policy في جامعة رايس: "حصل القطريون على نفوذٍ كبير بدرجةٍ لم يتصورها أحد. وقد استثمروا الغاز الطبيعي ليحولوه إلى مختلف أشكال القوة الناعمة".
ولا يعلم أحد كيف ستستغل قطر نفوذها مستقبلاً، لكنها تنعم حالياً وسط الاهتمام الدولي بغازها الطبيعي.