ما بات مؤكداً أن الغزو الروسي لأوكرانيا شكّل بداية لزعزعة النظام العالمي وفتح الباب أمام توتر عالمي تسيطر عليه الفوضى الخلاقة وضياع الأولويات في الإقليم. وثمة ضياع وتخبط معلوماتي ترجمته الخسائر المتتالية للجيش الروسي وعدم قدرته على الحسم العسكري بشكل سريع؛ حسم الحرب سريعاً. وهذه الفوضى دفعت بالأوروبيين إلى إعادة رسم الرؤية الاستراتيجية ودفعت بالأمريكيين إلى تعديل مشروع المواجهة مع موسكو بدلاً من الصين والتفرغ لمواجهة التقدم المتسارع للتنين الصيني في المساحات الاقتصادية.
وتركيز إدارة بايدن على أولوية المواجهة مع موسكو، التي جاءت على حساب ملفات أخرى وفي طليعتها ملف الشرق الأوسط. وهذا ما جعل الجانب الإسرائيلي أكثر اندفاعاً لعقد تحالفات إقليمية جديدة انطلاقاً من الاتفاقات التي بدأتها مع الإمارات والبحرين والمغرب والذي انعكس تعاون عسكري واقتصادي مع تلك الدول.
وهذا ما بدا من خلال المناورات العسكرية المشتركة في المتوسط وشراء أسلحة إسرائيلية والسعي إلى إقامة أنظمة دفاع جوي مشتركة في وجه إيران، بالمقابل فإن المرحلة المقبلة قد تشهد مزيداً من التواصل الإسرائيلي والاتفاقيات مع دول أخرى وخاصة السعودية التي صرح ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان مراراً بأن إسرائيل حليف محتمل، فيما تشير أوساط عن محاولة إسرائيلية بعيدة عن الأضواء لترتيب العلاقات المتوترة بين واشنطن والرياض.
والانشغال الأمريكي بملفات أوكرانيا والصين وأزمة إمدادات الطاقة باتت تنعكس على لبنان والذي جرى تفويضه مرحلياً للفرنسيين الذين يتحركون لبنانياً منذ سنتين، لذلك، كان ينتظر ماكرون انتهاء الانتخابات الفرنسية وتتويجه رئيساً لولاية ثانية لإعادة تحريك الملفات اللبنانية والذهاب باتجاه ترتيب مرحلة إعادة الاستقرار في لبنان بالتعاون مع مثلث عربي قوامه مصر والسعودية وقطر.
ولا يمكن فصل الاهتمام الفرنسي في لبنان عن عودة السفراء الخليجيين للبنان وتحديداً السعودي والكويتي، وتعيين سفير جديد لقطر في لبنان، وخاصة أن الدوحة هي الدولة الخليجية الوحيدة التي أبقت خطوطها مفتوحة مع معظم المكونات اللبنانية ومهدت بشكل سلس لعودة السعوديين والكويتيين عبر تواصلها مع حزب الله والتيار الوطني الحر وعلاقاتها مع رؤساء الحكومات السابقين، بالمقابل فإن حزب الله أكد للفرنسيين والقطريين أنه يعكف على دراسة الواقع السياسي الحالي في لبنان ووصل إلى نتيجة مفادها أنه لا يمكنه أن يحكم بمفرده لبنان، ويعتقد أن تسليمه البلاد بشكل منفرد يشكل محاولة لتطويقه وجرّه لخيارات الحكم الأوحد يعني تحميله كل الأزمات منفرداً.
فكيف ذلك في ظلّ الأزمة الخطيرة المستفحلة التي تكاد تقضي على الدولة وتدمر بنيتها؟ وهو يريد أن يحافظ على خيط من العلاقات الخارجية على الرغم من تحول لبنان لمستعمرة إيرانية بالشكل والمضمون، ورغم توجهاته الأخرى، فهو يريد حكومة ورئيساً يغطّيانه، ولا يعمّقان من محاصرته وعزلة البلد. لذا ووفقاً للمطلعين على المعطيات والوقائع القائمة من محيط الحزب، فإنه بات من الصعب الإتيان برئيس للجمهورية من فريقه السياسي وتحديداً جبران باسيل المعاقب أمريكياً وسليمان فرنجية الذي يرتبط بشكل كبير بالنظام السوري.
ويعكف حزب الله على دراسة خياراته في المرحلة التي تلي الانتخابات النيابية المقبلة، ويسعى لتلمس آفاقها وما تحمله من توازنات داخلية وخارجية في ظل اقتراب موعد الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران وفي ظل تقدم الحوار السعودي-الإيراني حول ملفات اليمن والعراق ولبنان. لذا فإن الحزب يصبّ تركيزه حالياً على إنهاء مرحلة الاستحقاقات الأساسية على رأسها إجراء انتخابات نيابية، والذي يسعى من خلالها للحصول على الأغلبية دون الثلثين وهو بات وفقاً لأرقامه وأرقام حلفائه واثقاً من ذلك، بعدما نجح في جمع معظم فريقه المتحالف معه في لوائح موحدة، فيما خصومه والمناوئون له فشلوا في التوحد والتحالف.
بالمقابل فإن الحزب الذي عطل انتخاب رئيسٍ للجمهورية سنتين ونصف للإتيان بحليفه وشريكه ميشال عون والذي أوصل مع صهره وتحالفاته والتسويات المالية والمشاريع، لبنان إلى الإفلاس والانهيار كان لافتاً دعوة الحزب على لسان رئيس كتلته البرلمانية محمد رعد إلى الذهاب إلى حكومة وحدة وطنية والتوافق على رئيس للجمهورية، وهذا الموقف بات مرتبطاً بالتحولات الجارية عقب الاستحقاق الانتخابي وتحديداً مؤتمر الحوار الذي تحضر له باريس للفرقاء اللبنانيين.
وهناك تواصل فرنسي مع حزب الله عبر المستشار باتريك دوريل، وجرى تفاهم حول ضرورة انعقاد مؤتمر حول الأزمة اللبنانية في باريس خلال الصيف المقبل، على الرغم من أن هذا التداول لم يتطرق للبنود التفصيلية لهذا المؤتمر، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه التعديلات الدستورية كممر إلزامي لإغلاق حقبة الارتطام المالي وانهيار مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، والذهاب لمرحلة جديدة يسودها شيء من الاستقرار، وتبدأ بمرحلة ما بعد الانتخابات البرلمانية وتستمر مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وأن يواكبه إيجاد حلول لأزمة غياب المساعدات الخارجية عبر تفعيل مخرجات مؤتمر سيدر الذي عقد في العام 2018 برعاية فرنسية وقضى بدعم لبنان بمنح وقروض بقيمة 11 مليار دولار متوقفة على جدية لبنان بإجراء إصلاحات جدية توقف النزيف المالي الذي سببته تلزيمات جبران باسيل ونادر الحريري.
بالمقابل فإن العودة السعودية للبنان والتي سعت باريس لها بدعم أمريكي ومواكبة مصرية-قطرية هدفها الرئيسي مشاركة في الاستحقاقات اللبنانية حكومية ورئاسية، والامتحان الأساسي للبنان سيكون في مرحلة ما بعد الانتخابات ولدى تسمية الشخصية التي يتم تكليفها تشكيل الحكومة. ومن غير المحسوم حتى الآن إذا كان ميقاتي هو الذي سيعود أو تدشين لعودة سعد الحريري؛ لأن ذلك سيكون خاضعاً لجملة اعتبارات والتزامات مرتبطة بنتائج الانتخابات النيابية، بالإضافة لاستحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وهذا ملف أساسي سيكون حاضراً في كل اللقاءات بعد الانتخابات وسيكون للسعوديين والخليجيين موقف من ذلك، كما سيكون حاضراً في الزيارة المرتقبة لبابا الفاتيكان فرنسيس تحت عنوان حماية لبنان وكيانه ومؤسساته الدستورية وتحديداً رئاسة الجمهورية بكونه الموقع المسيحي الأول في الشرق الأوسط، وهذا الاستحقاق خاضع لتوازنات إقليمية ودولية. وبما أن الدبلوماسية الفرنسية تركز على أن لا خلاص ولا نهوض للبنان من دون دول الخليج، فحتماً ستكون للسعودية مشاركة أساسية في التقرير بهذه الاستحقاقات المنتظرة مقابل عودتها لتأمين التوازن.
وعليه فإنه وعقب الانتخابات البرلمانية في لبنان، ستكون الملفات الحاسمة محلياً وإقليمياً بتشكيل الحكومة وانتخاب رئيس للجمهورية، في إطار التحضير أيضاً لإنهاء ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل والذهاب لمرحلة اتفاق مع شركات للتنقيب والاستخراج، أضف إلى ذلك الخيارات السياسية لحلفاء الحزب وملف الوجود السوري والفلسطيني والذي تستخدمه قوى سياسية في المعادلات الداخلية والخارجية، والعلاقات والسياسات الخارجية وإعادة النظر في السياسات والأجهزة الأمنية والمدنية وأدوارها المتوقعة، هذا في حال عدم الرغبة أو حلول وقت تغيير النظام، لكن بما أن أي فريق بحسب الأرقام الحالية، لا يمكنه أن يأتي بمفرده برئيس للجمهورية، وهناك حاجة إلى توافق، فهل هناك من سيمنح حزب الله فرصة جديدة لإعادة إنتاج السلطة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.