يُجمع المؤرخون على أنّ الموطن الأصلي للقهوة أو شجرة "البُنّ" هو إثيوبيا بشرق إفريقيا، ثم تمت زراعتها بالجزيرة العربية وبالأخص في اليمن، في القرن الـ15 الميلادي، لتنتشر بعد ذلك تجارتها بدول الحجاز والشام والعراق وبلاد فارس وتركيا وشمال إفريقيا في القرن الـ16، قبل أن تصل إلى أوروبا في أواخر القرن ذاته، وبداية القرن الـ17.
وطيلة القرون القليلة الماضية، التي توسعت خلالها زراعة وتجارة البُنّ، صنعت القهوة جزءاً من تاريخ البشرية، إذ كانت أداة لتأسيس الإمبراطوريات، وسبباً في اندلاع الثورات الشعبية والحروب الأهلية، مثلما ساهمت أيضاً في إنعاش الثورة الصناعية.
القهوة أسهمت في انتشار واستمرار العبودية!
وصلت القهوة إلى أوروبا في أواخر القرن الـ16 الميلادي وسرعان ما اكتسبت شعبية كبيرة لمذاقها المميز ولمفعولها على طرد النعاس وتمديد ساعات السهر والعمل أيضاً، ما زاد من الطلب على هذا المشروب "السحري" الجديد، وزاد معه نهم الدول الاستعمارية، على غرار إنجلترا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا وهولندا التي فكرت في التخلي عن البُنّ القادم من اليمن وإنتاج القهوة الخاصة بها من خلال إنشاء مزارع شاسعة لها بمستعمراتها الجديدة، بأمريكا اللاتينية وجزر الكاريبي وإندونيسيا.
وإضافةً لإشباع السوق المحلية، فإنّ هذه الدول الاستعمارية جعلت من البُنّ بجانب القطن والتبغ، أهم السلع التجارية الرائجة والمربحة، لتقوية اقتصادها، ولذلك بقصد زيادة الإنتاج والأرباح، فإنها كانت بحاجة لليد العاملة القوية والرخيصة في الوقت نفسه؛ لذلك لجأت إلى سوق العبيد في غرب إفريقيا، ونقلت مئات الآلاف من الرجال والنساء إلى العالم الجديد، بأمريكا الجنوبية وجزر بحر الكاريبي، وبذلك ساهمت القهوة في رواج واستمرار العبودية في القرون الـ17 والـ18 والـ19.
على سبيل المثال، صارت المستعمرة الفرنسية "سانت دومينيك" بالكاريبي، تحصد ثلثي المحصول الزراعي العالمي للقهوة بحلول أواخر القرن الثامن عشر، بحسب ما جاء في موقع History الأمريكي وذلك إلى غاية حرق مزارع البُنّ لتلك المنطقة ومقتل مالكيها، خلال الثورة الهايتية في العام 1791.
أما في البرتغال فقد سعت، وبكل عنف، لتكثيف زراعة البُنّ في مستعمرتها البرازيل لجعلها أكبر منتج للقهوة في العالم، وجلبت أكبر عدد ممكن من العبيد إلى العالم الجديد وأراضيه الشاسعة بأمريكا الجنوبية.
وبعد إعلان استقلال البرازيل عن البرتغال، يوم 7 سبتمبر/أيلول 1822، من طرف "الأمير بيدرو"، ابن الملك "جواو السادس"، الذي حوَّلها إلى إمبراطورية، وبعد اعتراف البرتغال باستقلال مستعمرتها القديمة في العام 1825، استمرت زراعة البُنّ باعتباره القلب النابض لاقتصاد البلد (أي إمبراطورية البرازيل) والمؤثر الرئيسي في حياتها الاجتماعية والسياسية، حتى إنّ هذه الدولة الأمريكية الجنوبية تعتبر آخر بلد يعلن إنهاء العبودية في العالم الغربي، وكان ذلك في العام 1888.
مقهى "التنين الأخضر" ودوره في حرب استقلال الولايات المتحدة
ظهرت "المقاهي" لأول مرة بالإمبراطورية العثمانية؛ حيث كان المسلمون الذين لا يشربون الخمر، ويجتمعون لتبادل الحديث أو للسهر على موائد القهوة بأماكن سُميت مع مرور الوقت بـ"المقاهي"، ثم انتشرت على نطاق واسع بأوروبا وبأمريكا.
وبالتزامن مع انتشارها في العالم، أصبحت المقاهي بمثابة الأماكن التي يلتقي فيها السياسيون والمفكرون مع العامة لمناقشة قضايا البلد وشؤونه الاجتماعية؛ ما زاد من درجة الوعي لدى الشعوب، بعدما كانت تلك النوعية من النقاشات مقتصرة في السابق لدى فئة النخبة في نوادٍ خاصة بهم.
وقد اشتهر مثلاً مقهى "التنين الأخضر – Green Dragon" بمدينة بوسطن الأمريكية بأنّه كان مكاناً لاجتماعات مسؤولي حركة "أبناء الحرية – Sons of Liberty"، الذين ساهموا بأفكارهم الثورية في اندلاع حرب استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن مملكة بريطانيا العظمى، التي جرت من 19 أبريل/نيسان 1775 إلى 11 أبريل/نيسان 1783.
وبحسب الموقع الأمريكي التاريخي، فإنّ المقاهي بالعاصمة البريطانية لندن كان يُطلق عليها، على سبيل المزاح، "جامعات السنت الواحد"، بحيث إنّ دفع الزبون لمبلغ سنت واحد لتناول فنجان قهوة كان يسمح له، في الكثير من الأحيان، حضور نقاش بين مفكرين حول قضايا الساعة.
فكرة شركة "الهند الشرقية" تبلورت بأحد مقاهي لندن
تم وضع النواة الأولى لتأسيس "شركة الهند الشرقية" بأحد تلك المقاهي المنتشرة بلندن، قبل أن يتم الإعلان الرسمي عن تأسيسها من خلال عقد ملكية وقَّعته ملكة إنجلترا، إليزابيث الأولى، في 31 ديسمبر/كانون الأول 1600، وتمنح من خلاله الحق للشركة بالانفراد بالتجارة بالمحيط الهندي لمدة 20 سنة، قبل أن يقوم الملك جاك الأول بتعديل بنود العقد الملكي في العام 1609، لتصبح المدة غير محددة، لكن بشروط لها علاقة بمدى النجاح التجاري للشركة وأهميتها بالنسبة للمملكة.
وتعد تلك المؤسسة التجارية التي أضحت تُسمى فيما بعد بـ"الشركة البريطانية للهند الشرقية"، أضخم شركة عالمية، في ذلك الوقت، وقد هيمنت على التجارة بالمحيط الهندي لأكثر من قرنين كاملين، وأغرقت إنجلترا بالسلع القادمة من الهند والصين وبلاد فارس و إندونيسيا، كالشاي والقماش والحرير والقطن والتوابل.
الثورة الصناعية كانت بحاجة لـ"الكافيين"
تزامن توسع وازدهار تلك الشركة العملاقة مع ظهور الثورة الصناعية بأوروبا، والتي امتدت فيما بعد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث أنشئ الكثير من المصانع التي كانت تعمل ليلاً ونهاراً لزيادة إنتاجها بفضل القهوة أو بالضبط بفضل مادة "الكافيين"، التي تسمح للعمال بالاحتفاظ بنشاطهم في الليل وطرد النعاس عنهم.
حروب أهلية بأمريكا الوسطى بسبب نفوذ شركات القهوة
وإلى عهد ليس ببعيد، وخلال فترة الحرب الباردة، بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، شهدت بعض دول أمريكا الوسطى تحولات سياسية نحو الاشتراكية، سعى من خلالها بعض رؤساء تلك الدول لإنهاء هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات والرأسمالية على اقتصاد بلدانها، ما أدى إلى تدخل وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، بحجة محاربة المد الشيوعي بالمنطقة.
ففي سنة 1954، ساندت الولايات المتحدة الانقلاب العسكري الذي أطاح برئيس دولة غواتيمالا، جاكوبو أربينز غوزمان، الذي تم انتخابه ديمقراطياً، وذلك بعدما بدأ في منح أكثر من 100 مزرعة كبيرة لزراعة البُنِّ لتعاونيات فلاحية.
وقد نصب الانقلابيون كارلوس كاستيلو أرماس رئيساً جديداً للبلاد، فقام بإلغاء الإصلاح الزراعي وطرد الفلاحين من تلك التعاونيات التي كانت قد مُنحت لهم، ما زاد من الغضب الشعبي تجاهه وتوسع دائرة الثوار الشيوعيين، فتم اغتياله في العام 1957، ثم دخلت غواتيمالا، بداية من سنة 1960 في دوامة من الحرب الأهلية استمرت إلى غاية 1996، بين الطغمة العسكرية وأنصارها ومجموعات متعددة من الثوار مدعومين من الفلاحين والسكان الأصليين للبلاد.
كما نشبت حروب أهلية مشابهة في دول مجاورة لغواتيمالا، وكنيكاراغوا والسلفادور، في سنوات 1970 و1980.
ففي السلفادور، مثلاً، امتدت الحرب الأهلية من 1979 إلى 1992، ودارت رحاها بين طغمة عسكرية ومتمردين مدعومين من دولة كوبا، كانوا يسعون للإطاحة بالحكومة التي كانت لها علاقات متينة مع كبار منتجي ومصدري القهوة وقد تسببت تلك الحرب الأهلية في مقتل 50 ألف شخص وفي هجرة مليون شخص، وأيضاً في انخفاض كبير في صادرات البلد من القهوة.