من سحر العروسة المتمثل بدمية خشبية أو مصنوعة من قماش، يتم غرزها بالعديد من الإبر، ثم إلقاؤها في النيران، إلى السحر المكتوب والمشروب والتمائم والأحراز، استخدم الإنسان عبر العصور وحتى اليوم طرقاً مختلفة من السحر الأسود لِلَعن من يكره، والانتقام من شخص آذاه.
ورغم أن جميع الطرق السابقة عادة ما تتم بشكل سري وخفي، ويُنظر لها باستهجان، لكن بالنسبة للرومان والإغريق كانت هناك طريقة مشروعة وعلنية حتى للانتقام من شخص ولعنه أمام الناس والآلهة، وهي "أقراص اللعنة" التي يعود تاريخها لما قبل الميلاد.
اكتشف المنقّبون الكثير من أقراص اللعنة التي تحتوي على لعنات موجهة للصوص والسياسيين والإقطاعيين، بل وحتى للأصدقاء، في بلاد مختلفة مثل الهند واليابان وإيطاليا، لكن أكثرها كان في مدينة باث في بريطانيا.
فما هذه الأقراص، وكيف كانت تُكتب، ولماذا؟ لنتعرف معاً على تاريخها المثير أكثر:
كتب لعنة على جدار قبر صديقه، وطلب من الآلهة ألّا تقبله في العالم السفلي
على قبر يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، في مدينة بومبي الإيطالية القديمة، عُثر على نقش ملصق على جدار قبر كُتب من قِبل شخص لصديقه السابق، يحذّر الآخرين منه، ويدعوهم لتجنبه، ويدعو فيه ألا تقبله الآلهة في بيتها ولا في العالم السفلي.
تُعرف هذه القطعة الصغيرة من الكتابة على الجدران الأثرية باسم "لوح اللعنة" أو "قرص اللعنة أو "defixione"، من الكلمة اللاتينية التي تعني "التقييد أو التكبيل". وقد كتبها الشخص لصديقه المتوفى وعرضها على قبره أمام الجميع لقراءتها بعد وفاته.
ورغم أن هذا التصرف الانتقامي العلني قد يبدو غريباً اليوم، فإن كتابة أقراص اللعنة كانت ممارسة شائعة وعلنية في روما القديمة واليونان.
ينابيع مدينة باث المليئة بأقراص اللعنة
تشتهر مدينة باث، الواقعة في جنوب غرب بريطانيا اليوم بمياهها وحماماتها وينابيعها الساخنة الشافية، كما تتميز بتاريخ روماني غني. فقد تأسست مدينة باث في القرن الأول الميلادي، على يد الرومان الذين استخدموا الينابيع الساخنة الطبيعية كمنتجع صحي حراري.
لكن لم يكن هذا هدفهم الوحيد، فقد كانوا يرمون في هذه الينابيع أيضاً "أقراص اللعنة"، للانتقام من الأشخاص الذين سرقوهم أو آذوهم على ما يبدو.
في عام 1979، عندما قام علماء الآثار بالتنقيب لأول مرة في حمام الملك في العصر الروماني، وجدوا مئات الأشياء الصغيرة، من بينها حوالي 130 قطعة ملفوفة من المعدن، يعود تاريخها إلى القرون القليلة الأولى بعد الميلاد.
واكتشفوا أن هذه القطع كانت عبارة عن أقراص اللعنة، التي تعود للعالم اليوناني الروماني، والتي يعود تاريخ بعضها إلى القرن الخامس قبل الميلاد.
وفي مدينة باث القديمة، غالباً ما كانت أقراص اللعنة موجهة إلى سوليس مينيرفا، التي كانت مزيجاً من الإلهة سوليس، التي قيل إنها تحرس النبع، ونظيرتها الرومانية مينيرفا، وقد استخدم الرومان مثل هذا التهجين الديني، لجعل آلهة الشعب الذي غزوه آلهة خاصة بهم.
أقراص اللعنة للانتقام وطلب العدالة بشكل علني أمام الناس
كانت هناك فئتان أساسيتان من ألواح اللعنة، الأولى هي الشتائم أو اللعنات المستخدمة بشكل أساسي للتغلب على المنافسين في الحب والرياضة والقانون حتى.
أما الفئة الثانية فكانت تشبه الصلاة أو الدعاء من أجل العدالة، والتي كانت بسبب السرقة في الغالب، يطلب فيها الشخص من الآلهة تعقب اللصوص وإقامة العدل والاقتصاص منهم.
إذا عرف الضحية اسم الشخص الذي سرقه أو المشتبه به فكان يكتب اسمه بوضوح على قرص اللعنة علناً، وكان يطلب من الآلهة أحياناً أن تجعل هذا الشخص مريضاً، وتحرمه النوم والصحة حتى يأتي ويعيد الأشياء التي سرقها.
وفي كثير من الأحيان كان يتم عرض هذه الأقراص علناً وقراءتها بصوت عالٍ أمام الناس، قبل إسقاطها في المسبح المقدس.
كما كانت هناك أقراص لدرء اللعنات وصدّها، مثل التمائم لدرء "العين الشريرة". وكانت بعض أقراص اللعنات تُكتب كإجراءات وقائية في حال اكتشف الشخص الملعون التعويذة وقرر الانتقام، وألواح أخرى تضمنت كتابة لمنع التحايل على اللعنة، وصد أي محاولة لعكسها أو إبطالها.
ألواح الرصاص كانت الأكثر شيوعاً لكتابة أقراص اللعنة التي تليق بالآلهة
يقول ستيوارت ماكي، الباحث في التاريخ الروماني في جامعة دورهام في المملكة المتحدة، لموقع How Stuff Works، إن "الهدف الأساسي من استخدام أقراص اللعنة كان التأثير بوسائل خارقة للطبيعة، على الناس ضد إرادتهم".
وأضاف ماكي أن الناس كانوا يستخدمون شظايا الفخار وقصاصات ورق البردي وحجارة القبور وغيرها الكثير لكتابة أقراص اللعنة. حتى إن إحداها تمت كتابتها على مصباح، لكن أكثر أقراص اللعنات شيوعاً كانت مكتوبة على قصاصات رفيعة من الرصاص.
يعتبر الرصاص منتجاً ثانوياً لتعدين الفضة، وكان مصدراً رئيسياً للثروة في اليونان القديمة وروما، لا سيما في مدينة أثينا اليونانية، لذلك كان من أكثر المعادن انتشاراً ووفرة في ذلك الوقت، لذلك استخدموه لتدوين الرسائل، خاصة تلك التي تُرسل إلى الآلهة.
يعتقد العلماء أن اختيار الرصاص كمواد للكتابة كان خياراً عملياً، فالرصاص ناعم، وبالتالي يسهل تمييز أي شيء تكتبه أو تنقشه عليه. كما أن لاختيار الرصاص قيمة جمالية، فالكتابة عليه بالخط الفضي المائع مقابل السطح المؤكسد للمعدن تبدو ساحرة وتليق أكثر برسالة موجهة إلى الآلهة.
استخدمها الفقراء والعبيد والسياسيون
كوسيلة غير مكلفة لطلب العدالة، كانت أقراص اللعنة متاحة للجميع، ولم تكن حكراً على طبقة معينة، فالكثير من الأدلة تشير إلى أنها كانت تشمل جميع الطبقات الاجتماعية.
أحياناً كان يلعن السياسيون الأثرياء خصومهم السياسيين أو الطرف المعارض في معركة قانونية. كما كان أفراد الطبقة العاملة يلعنون اللصوص والقتلة، أو حتى فريق سباق العربات الذي يريدون خسارته. حتى إن هناك سجلات تشير إلى استخدام العبيد لها للعن مالكيهم.
كان هناك أشخاص متخصصون بكتابة اللعنات
كان يمكن للأثرياء، والمتعلمين بالطبع، كتابة اللعنات الخاصة بهم باليد إذا أرادوا ذلك، لكن اعتمد العديد من الأشخاص الذين لم يتقنوا الكتابة على طرف ثالث محترف، لكتابة لعناتهم نيابة عنهم.
هؤلاء الأشخاص قاموا بصياغة قوالب لعنة جاهزة لعملائهم والسماح لهم بملء الفراغات. حتى إن علماء الآثار عثروا على ألواح لعنة، حيث كان اسم الشخص المحفور عليها طويلاً جداً، بحيث لا يتناسب مع الفراغ، فكان لا بد من تلاصق الحروف معاً نتيجة لذلك.