تعمد وسائل الإعلام إلى التدليس وقلب الحقائق في وقت محدد، وذلك حين تشعر بالخطر، وهذا الخطر يكمن في تزايد الوعي المجتمعي وبداية تشكل الإرادة الشعبية. فالدجالون -حسب باولو فرير- يلجأون إلى التضليل الإعلامي عندما يبدأ الشعب في الظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية، وأما قبل ذلك فلا وجود للتضليل، فالشعب الخامل لا يحتاج للتضليل فهو تائه لا يحتاج لمن يضلله. فالتضليل ليس سوى أداة يستعملها السياسي وقت الحاجة. وإن المتابع للأحداث -العربية- ليدرك أن التغيير الحاصل في الإعلام مرده -دون أدنى شك- للتغيير الذي طرأ على المستوى السياسي في المنطقة.
الإعلام اليوم بمدخلاته ومخرجاته لم يعد يمثل المجتمع ولم يعد يرقى إلى تطلعاته، وبات يسير عكس التيار الاجتماعي وبدأ المرء يرى بوضوح أن هذه المسلسلات أو البرامج تعانده وتدخل مع كيانه في صراع من أجل البقاء. وهو يدرك حقيقة هذا الاعلام، ويعرف أن الصراع معه يعني الصراع مع القوى المتحكمة في الإعلام من جهة، والمتحكم بقوت يومه هو من جهة ثانية، وهذه الفئة تسيطر على حاضره وتصنع مستقبله وتريد أن تغير تاريخه بقلب الحقائق وغسل دماغه ببرامج موجهة ذات أهداف محددة سلفاً، على رأسها تغيير النظرة للدين وتجديد الولاء للدولة ولسيادة الزعيم، فمن كفر بالزعيم فقد كفر بالله والعياذ بالله -هكذا يقول شيوخهم-.
في السنوات الأخيرة وأعتقد أن ذلك حصل بعد 2011 ما يعني أنه متزامن مع الاحتجاجات التي عرفتها مجموعة من بلدان المنطقة العربية، بدا واضحاً أن الإعلام انقلب رأساً على عقب، وأدركنا جميعاً أن هناك تحولاً تاماً في رسائل الإنتاجات التلفزيونية.
استطاعت الأنظمة لا أن تصنع من أجهزتها أداة للسيطرة وفقط بل ومن وسائل الترفيه ابتكرت أساليب للتحكم والتنميط ومحاربة كل فكر هو خارج فكر النظام الحاكم، وبالتالي أضحى التمثيل والإعلام بشكل عام أحد أهم ركائز الأنظمة الحاكمة في معظم بلدان العالم دون أن نستثني أي دولة، فالكل انتبه لقدرة صندوق العجب كما يسميه البعض على نشر الأفكار وغسل الأدمغة، فيكفي أن تُكرر الكذبة لشهور حتى تصبح حقيقة، وبإمكانك تغليفها بوجه ممثل أو لاعب كرة حتى تمسي في حكم اليقين.
من الهزلي أن تتحول مصادر المعرفة من المثقفين إلى ممثلين ومذيعي برامج، في الحقيقة لا أكاد أصدق أن المسلسل الفلاني يصبح مصدراً للمعرفة التاريخية، وأن أحد المذيعين المعروفين بمخرجاته اللامعقولة يمسي لدى الناس مثقفاً يصف الدواء لعلل المجتمع ويناقش القضايا المصيرية للأمة!
إن الثقة التي يتحدث بها هؤلاء يسردون قصصهم الخيالية عن تعاون الرئيس السابق مع سكان كوكب الناميك وزعيم تنظيم الساينس المقدس الذي يهدد الدولة بالغزو والدمار!
على شاشة التلفاز يتكرر الكلام نفسه والمشاهد نفسها، لقطات للزعيم المبجل، ولأن الزعيم حريص على أمن الدولة فإن المذيع يؤكد على أن كل القرارات التي تم اتخذها وراح ضحيتها آلاف الأبرياء هي في جوهرها قرارات مصيرية هدفها حماية مستقبل الدولة.
يحرص الإعلام كل الحرص على الإساءة للمتدينين وحتى أولئك التقليديين الرافضين لمشروع دولة السلطوية ويصف كل من هو ضد المشروع بالإرهابي المحتمل حتى لو كان مسيحياً أو شيوعياً، فالكل في خانة واحدة ما دامت التهمة مخالفة سيادة الرئيس.
رمضان "عبادة وسياسة"
مما لا شك فيه أن رمضان لم يعد فرصة لغسل الذنوب وتطهير النفوس وتزكيتها والتقرب لله وحسب؛ بل ولغسل وعي الناس وتطهير المجتمع من أصحاب الآراء المخالفة والتقرب من الدولة زلفى.
لم يعد الإيمان بالله مرادفاً للدين فقط الآن أمسى بإمكانك الإيمان بالزعيم الوطني ومعالي الرئيس لتضمن الخلود في جنان الخلد.
يتصارع المخرجون والسيناريست صراع العروش ويتسابقون سباقاً للتقرب من صناع القرار وبالتالي ضمان مبالغ ضخمة ومكانة داخل النظام الحاكم تمكنه من العيش في مأمن، خاصة وإن كان النظام في تلك الدولة لا يأمنه حتى أقرب المقربين، وهكذا ولسان حال هؤلاء "سارعوا إلى مغفرة من ربكم"؛ يتسابقون لإرضاء ولي النعمة وتثبيت حكمه الرشيد ومحاربة المعارضين لحكم معاليه.
ومع أنه -للإنصاف- ليس وجود مثل هذه للعينة بطارئ على التاريخ البشري فلطالما حبلت بهم الأوطان، فحيثما وجد أمير وجد مطبلون، ففرعون مع تسلطه وبطشه وجد بطانة سوء تزين له أعماله، والحق أن فرعون وغيره من الأمراء حتى لو لم تكن هناك بطانة سوء لطغوا، وذلك أن الطغيان ملازم للسلطة إلا في وجود استثناءات تعد على رؤوس الأصابع.
تسبب حرية الرأي حساسية مفرطة للنظام المصري وكل الأنظمة المستبدة، ويحضرني الآن مشهد إحدى المطبلات للنظام السلطوي وهي تدافع عن النظام وتبين كيف أنه يضمن حرية الرأي، وحين سئلت متى آخر مرة سمعت شخصاً ينتقد الرئاسة أجابت أنها "منذ مدة شاهدت شخصاً يتحدث على شاشة مصرية بكل حرية وينتقد الواقع ويوجه الاتهام لنظام حكم في السبعينات"، نعم السبعينات!
كيف لا ينتقد هذا وهذا الرئيس وهو الذي قد أفضى إلى ما عند الله نحن نتحدث عن النظام الحالي، فهل يستطيع أي شخص انتقاده؟
ليس هناك فرصة لذلك وكل منتقد أو مشكك في قرارات سيادته، ليس لديه من الحلول إلا اثنان "الهجرة أو السجن".
نهاية لا بد منها
هناك رسالة شديدة اللهجة يجب أن توجه للناس عنوانها "أفيقوا من غفلتكم".
فليس من المعقول مع هذا الكم الهائل من التقدم أن نحدد توجهاتنا ومبادئنا على ما نشاهده من برامج ومسلسلات تافهة وهذا أقل ما يقال عنها، وليس من المقبول ونحن أمة اقرأ أن نصدق أن ممثلاً يتقاضى أجراً بالملايين يفكر في مستقبل البلد.
علينا أن ننقذ أنفسنا من براثين التلفاز وخاصة في هذا الشهر المبارك الذي هو مناسبة للتقرب من الله بالأعمال الصالحة وفرصة للتوبة قد لا تتكرر، أفنضيع كل هذا في مشاهدة المهرجين وهم يتملقون ولي نعمتهم، أو متابعة ممثلة ذات خلفية نجسة وهي تشرح لنا الفقه!
إن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، فكيف نسمح للإعلام أن يلدغنا في كل مرة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.