كان شتاء عام 1952 قاسياً على التونسيين؛ ما يُدرَّس عنه أنَّ فرنسا رفضت منح الاستقلال الداخلي لتونس، وتعسَّفت بتوجُّهها نحو "سيادة مزدوجة" وربط أبديّ لتونس بفرنسا، وأرسلت المقيم العام الجديد "جون دي هوتكلوك" على ظهر بارجة حربية قصد إرهاب وإخضاع التونسيين، لتندلع بذلك المقاومة المسلَّحة التي ستؤدِّي إلى نيل الاستقلال الداخلي بفضل حنكة "الزعيم"..
تلك نسخة جد ملطَّفة تواري فظائع المحُتل الغاشم بنية عدم التنفير من الاقتداء به، فما نقرؤه في التاريخ يؤثِّر بشدَّة في نظرتنا إلى الآخر وتعاملنا معه، لقد ارتكب المحتل الفرنسي في ذلك الشتاء سلسلةً من أبشع الجرائم وأفظعها بحق التونسيين شملت مناطق وقرى عدَّة من شمال البلاد إلى جنوبها بهدف كسر إرادة الشعب والتنكيل به.
حتّى وقتنا الحاضر لا تزال فرنسا تسترجع وتعدِّد قائمة مجازر النازيين على أرضها وقت احتلُّوها، من مجزرة "أورادور" و"ماييه" و"تول" وغيرها، ولا بدَّ أنَّ التعداد والبكائيَّات كان أشدَّ كثافة ووطأة في خمسينيات القرن الماضي، لكنَّ ذلك لم يحل دون أن يقوم الفرنسيُّون بما هو أبشع وأوحش في مستعمراتهم، فالدماء في فكرهم الغاصب المتعالي ليست سيَّان.
لم يُثنهم عن اقتراف جرائهم لا ميثاق أممهم المتَّحدة ولا إعلان حقوق الإنسان، الذي يغيِّر فيه البعض سخريةً كلمة الإنسان بالنسيان، فيما أخيِّر إلحاق كلمة الغربي أو الآري به ليُعبِّر بحقٍّ عن فكرهم.
اخترتُ هنا التذكير بمجزرة تازركة، وقد امتدَّت عدَّة أيام بعد انطلاقها في 28 يناير/كانون الثاني 1952؛ إذ في ذكر بعض مجرياتها عِبرٌ عديدة عنهم وعنَّا؛ لتنفيذ جرائم القمع، انتدبت فرنسا جنرالها السفَّاح "بيير جارباي" كقائد أعلى للجيوش بتونس، وهو أحد المسؤولين عن تصفية عشرات الآلاف في مدغشقر؛ وقد كانت حصيلته في المدينة خلال بضعة أيَّام حوالي الـ200 قتيل منهم رُضَّع، إلى جانب عمليَّات الاغتصاب والنهب والتدمير وتدنيس المقدَّسات وتنكيل في المحتشدات ومحاكمات عسكريَّة جائرة.
شهدت تازركة وحدها مقتل أربعة رُضَّع حسب ما يورد المؤرخ علي البلهوان في كتاب "تونس الثائرة"، أصغرهم رضيعة عمرها 20 يوماً، ورضيع بعمر 45 يوماً داسه جندي بالأقدام، فيما قام آخر بانتزاع رضيعة عمرها خمسة أشهر من حضن أمِّها ورميها أرضاً بعنف أدَّى إلى موتها بينما يحاول اغتصاب الأم، كذلك كان مصير رضيعة السنة والستَّة أشهر في حادثة مشابهة.
كان النسوة يتوسَّلن للجند برضَّعهنَّ طمعاً بأن يرأفوا ولا يغتصبوهنَّ، لكن ليس في قلب أولئك الجند رحمة ولا أدنى ذرَّة إنسانيّة؛ حتّى إنَّ معلِّماً فرنسياً ارتاع لهول الجرائم وعمليَّات التصفية في الوطن القبلي من خلال رسالة له نُشرت في مجلَّة "L'Educateur" الفرنسيَّة قال فيها: "كنتُ قد حضرت بنفسي مأساتين مرجفتين متتاليتين، وشاهدتُ خلالها نساءً بريئات وأطفالاً ورجالاً بؤساء يتساقطون ويتخبَّطون في دمائهم، وهم جميعاً عُزَّل!".
لقد عمد جند الاحتلال الفرنسيُّ إلى حشد الرجال في الساحة تحت فوَّهات البنادق والرشَّاش، وأُطلِقت يد الجند في النساء يعتدون عليهن ويغتصبون، ليصل صياحهنَّ إلى الرجال دون أن يقدروا على تحريك ساكن، وقد تحدَّث "حمَّادي غرس" في شهادته أمام هيئة الحقيقة والكرامة سنة 2016 عن قتل أيِّ رجل يحاول الذود عن النساء.
أحصت التقارير حوالي عشر حالات اغتصاب؛ هذه طبعاً المصرَّح بها، فغالبها تخصُّ صبايا، فيما لعلَّ أخريات كتمن مصابهن وقد ألقت إحداهن بنفسها في بئر، وكان النسوة يدفعن بناتهن إلى الارتماء في البئر خوفاً من قيام الوحوش الفرنسيَّة باغتصابهنَّ.
يقول البلهوان: "كان التنكيل بالتونسيين يرمي إلى إيذائهم إذاءً عميقاً والمس بتقاليدهم وروحانيَّاتهم، ولذا أُطلقت يد الجنود في تلك الليلة على النساء عند غياب رجالهنَّ، علماً من المستعمر أنَّ كلَّ امرأة مسلمة تُنتهك حرمتها تصاب بعار لا يمحوه الدهر، وتصبح كأنَّها منبوذة في المجتمع".
كما امتدَّت يد جنود الاحتلال إلى المقدَّس انتهاكاً وتخريباً؛ حيث اقتحموا مسجد القرية ومزَّقوا كتب القرآن والحديث الشريف والفقه، إذ المراد "المس بدين التونسيين وإهانته"، كما قال البلهوان؛ وهذه الحادثة ليست معزولة فقد قاموا في قرية المعمورة مثلاً باقتحام ضريح الولي الصالح محمد بن عيسى والقبض على المعلم، وطرد التلاميذ وتحطيم ألواحهم بآيات القرآن عليها ثم عمدوا إلى نسف الضريح.
مشَّط جند الاحتلال المنطقة والبيوت، وقاموا بسلب ونهب كلَّ ما امتدَّت له أيديهم، وبلغ بهم التخريب والإفساد نسف بيوت بأسرها بما فيها من متاع ومؤونة، وقد كان بيت الحاج عبد الرحمن المسعدي من بين البيوت المنسوفة وهو والد وحيد المسعدي رئيس الشعبة الدستورية في المنطقة، والأديب والسياسي محمود المسعدي، وإنَّه لمن الغريب أنَّ محمود المسعدي بعد كلِّ الإجرام والخراب الذي طال بيت عائلته وقريته وأهلها على يد الفرنسيين، سيكون هو من يقوِّض مشروع تعريب التعليم بمعيَّة بورقيبة، ثم يُنفِذ برنامج التعليم الذي جهَّزه الفرنسيُّون يكرِّس هيمنة فكرهم ولغتهم، ربما ينطبق عليه هنا قول ابن خلدون في اقتداء المغلوب بالغالب: "المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتِّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم"، أو قد غاب عنه قول ابن حزم في محوريَّة اللغة في تشكيل الهويَّة والثقافة:"إنَّ اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليها، فإنَّما يقيِّد لغة الأمَّة قوَّة دولتها، وأمَّا من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوُّهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذلِّ وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر وربما يكون ذلك سبباً لذهاب لغتهم"، فكان أداة في مشروع إسقاط لغة بلده رغم أنَّه أديبٌ فذٌّ ضليع فيها، وعارفٌ بمحاولات المحتلِّ تقويضها منذ حلوله بالبلاد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.