انتشرت أنباء عن إعلان لبنان إفلاسه رسمياً، الإثنين 4 أبريل/نيسان 2022، لكن ظهر لاحقاً أن التصريحات لم تكن إعلان إفلاس رسمي، ولكن نائب رئيس الحكومة اللبناني، والذي نُقل عنه إعلان الإفلاس نفى الأمر، وقال إن الكلام اقتطع من سياقه وجرى اجتزاؤه.
لكن نائب الحكومة قال أيضاً إن هناك مستحقات على بلاده، وهي متوجبة الدفع؛ لدائنين ومودعين أيضاً، وأن هناك خسائر ستقع في هذه الأموال.
والحديث اليوم يجري عن تحمل الخسائر بشكل مشترك؛ بحيث يتحمل بنك لبنان المركزي، المصارف، الدولة والمودعون أيضاً الخسارة بشكل مشترك، لوقف الانهيار الاقتصادي.
ولكن هذا "التحمل المشترك" للخسارة هو بحد ذاته "تعثر Default" عن دفع المستحقات، وهو ليس إعلاناً جديداً أصلاً، فقد تعثرت الدولة اللبنانية في دفع سندات مستحقة عليها في مارس/آذار 2020.
كما أن منع المودعين من سحب أموالهم هو تعثر أيضاً؛ فالأصل أن المودع يستطيع سحب جميع أمواله متى ما أراد، والبنك الرافض لتوفير أموال المودعين هو بنك متعثر بالفعل؛ بينما كان هذا المنع بقرار من الحكومة اللبنانية فعلاً.
ما الذي سيختلف عند إعلان الإفلاس؟
حتى بعد التعثر؛ ظل لبنان قادراً على البحث عن قروض من الخارج؛ خصوصاً من صندوق النقد الدولي، والذي يحتاجه لبنان بشدة، خصوصاً أن لبنان محتاج لإنقاذ اقتصاده، ومحتاج لاستعادة الثقة به من الخارج أيضاً.
تعتبر موافقة صندوق النقد على منح قرض لدولة ما إشارة جيدة للمُقرضين الأجانب الآخرين، لأن صندوق النقد لن يعطي ديناً جديداً دون المساعدة في إعادة جدولة الديون السابقة، ووضع خطط لسدادها، مع التأكد من اتخاذ الحكومة إجراءات تضمن هذا السداد، تتضمن تقليل الإنفاق ورفع الضرائب.
أما في حالة إعلان الإفلاس؛ فلن يكون لبنان مستعداً لدفع الأموال المستحقة عليه؛ بل هو فعلياً يخبر العالم أنه لن يقوم بالسداد، وأن لبنان يعفي نفسه فعلياً من دفع الديون.
لكن ذلك يعني أن على لبنان أن يدير اقتصاده وحده، دون طلب أي مساعدة خارجية، لأنّ لا أحد سيقبل إدانة أو مساعدة دولة مستعدة لإعلان أنها لن تدفع ما عليها في المستقبل، لأن أي دين يعطى لهذه الدولة في الحاضر، هناك احتمالية كبيرة أن يضيع في المستقبل، دون القدرة على استرداده.
ولكن لبنان اليوم يعيش حالة لا تسمح له بأن يحاول إدارة الاقتصاد دون الداخل؛ فالنظام الاقتصادي اللبناني انهار بالفعل، والدولة لا تملك ما يكفي لإنفاق ما تحتاج إنفاقه، والفقر يزداد بشكل خطير في البلاد، ومعها تسوء جميع مؤشرات الاقتصاد الكلي.
لا يعني ذلك بالضرورة أن لبنان سيمتنع عن سداد كامل ديونه؛ بل هناك سيناريوهات لما قد يحصل في حالة إعلان الإفلاس، ولكن التصنيف الائتماني الحالي للبنان، وواقع أن البلاد لا تزال تتفاوض مع صندوق النقد لبرنامج جديد، تنبئنا بصعوبة إعلان الإفلاس بشكل كامل، وإمكانية تنفيذ إجراءات أخرى.
التصنيف الائتماني للبنان
يعتمد المقرضون على مؤسسات عالمية، لتخبرهم بمقدار المخاطر من الاستثمار في شركة أو دولة ما، وكذلك بمخاطر إقراض هذه الجهات.
وبناء على هذه المخاطر، تقرر الشركات أن تقبل بسعر فائدة معين، يعكس المخاطر من الاستثمار في بلد ما أو إقراضها.
وكلما ساء الوضع الاقتصادي في بلد ما؛ كان من المحتمل أكثر أن يخفض تصنيفها الائتماني، وبالطبع فالعكس صحيح أيضاً.
لكن الأهم في هذه التصنيفات الائتمانية هو قياس قدرة الدولة على سداد التزاماتها، ففي النهاية لن يهتم المقرضون بمعيشة المواطنين وحالهم، كل ما يهمهم هو أن يسترجعوا أموالهم المُقرضة.
تقوم بهذه المهمة مجموعة من ثلاث شركات عالمية؛ هي Moody's، S& P، Fitch ratings.
وقد قامت هذه الشركات بتخفيض تصنيف لبنان الائتماني؛ بمجرد أن تعثرت الدولة عن سداد ديونها في مارس/آذار 2020.
كان تصنيف لبنان قبل هذا التعثر منخفضاً أصلاً، وينم عن مخاطر عالية من التعرض للاستثمار أو إقراض البلد، لكن شركات التصنيف خفضته أخيراً إلى التعثر؛ مع احتمالية قليلة للتعافي.
لكن هذا التصنيف قد يعود للارتفاع؛ بعد أن يتمكن لبنان من عقد اتفاق مع صندوق النقد، لأن ذلك سيعني ارتفاع احتماليات إعادة جدولة الديون، والقدرة على سدادها لاحقاً، بل وتوفير ديون جديدة لسداد الديون القديمة؛ المتعثرة والتي لم تستحق بعد.
ما يعني أن خطر الإفلاس قد يكون بعيداً عن لبنان؛ وإن كانت الأزمة مستمرة، ومعها معاناة المواطنين اللبنانيين.
ما هي بدائل الإفلاس؟
رغم أن الإفلاس ليس محتملاً؛ لكنه يظل ممكناً، خصوصاً أن الدولة متعثرة ومتخلفة عن الدفع أصلاً، رغم نيتها تسديد التزاماتها، والتوجه نحو الصندوق للمساعدة في ذلك.
وبينما يعني الإفلاس بالكامل أن الدولة قد لا ترجع شيئاً من المستحقات عليها، وأنها تعلن أنها لا ترغب بسداد الديون، أو أنها قد تعرض بعد الوقوع في الإفلاس أن ترجع للمقرضين والمودعين جزءاً من ديونهم.
فقد فعلت ذلك دول أخرى بعد إعلان الإفلاس؛ في محاولة لتخفيف أضرار الإفلاس على البلاد، خصوصاً في الأسواق المالية ما بعد الإفلاس.
فبعد إفلاس الأرجنتين عام 2001 بديون تجاوزت 80 مليار دولار، عرضت على دائنيها أن ترجع إليهم ثلث ما يترتب عليهم؛ مقابل أن يتحمل المقرضون خسارتهم في الباقي؛ والاحتمال الآخر هو ألا تدفع الأرجنتين شيئاً أصلاً، لكونها بلداً مفلساً.
وكذلك فعلت اليونان في عام 2012، عندما حرَّمت مقرضيها من مالكي السندات، مما نسبته 50% من أموالهم المستثمرة في هذه السندات التي أقرضوا عن طريقها الحكومة اليونانية.
وهذه الإجراءات تُعرف بالـ Haircut، وهي إجراءات تهدف لتخفيف الأضرار على الجميع؛ فيمكن أن تعرض الدولة على مقرضيها أنها لا تستطيع إرجاع إلا نسبة معينة من إجمالي الديون، أو تستطيع الدول الاجتماع بالدائنين والتفاوض معهم حول النسبة التي ستسدها الدولة.
في الحالة الثانية؛ قد يحصل ذلك ضمن عملية إعادة هيكلة للدين، دون إعلان للإفلاس، وهو خيار أفضل للجميع؛ لأنه يحمي الدائنين من خسارة أموالهم كافة، ويحمي الدولة من آثار مالية لاحقة نتيجة لخفض تصنيفهم، والموقف العام الرافض لإقراض الدولة في المستقبل، حتى لو كانت في أمس الحاجة، وربما حتى لو عرضت أسعار فائدة مرتفعة جداً.
والـ Haircuts وإعادة هيكلة الديون هي ما يجري الحديث عنه اليوم في لبنان، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وبالاتفاق مع الدائنين.
لكن الضرر الأكبر قد يقع نهاية على المودعين، فالدولة اليوم تدعوهم لتحمل جزء من الخسارة، فحديث نائب رئيس الحكومة وإن لم يعنِ إعلان الإفلاس بشكل رسمي؛ إلا أنه تعبير مجازي عن عدم قدرة الدولة على تعويض المودعين اللبنانيين عما خسروا، ولذلك عليهم أن يتحملوا جزءاً من الخسارة، إلى جانب الدولة والمصارف والبنك المركزي.
بالطبع؛ فالمودعون لم يكونوا مسؤولين عن إدارة الاقتصاد بأي شكل من الأشكال، وأغلبهم لم يكونوا في موقع فرض سياسات على الدولة اللبنانية، بعكس كثير من المُقرضين، ولكنهم ملزمون بتحمل أعباء بنسب لا نعلمها بعد، بينما بالغالب سيكون كثير من الساسة ومديري الاقتصاد اللبناني نقلوا أموالهم وأملاكهم إلى الخارج؛ قبل أعوام من الأزمة.