في ظل الأزمة الأوكرانية، التي تلت الآثار الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا عام 2020، وما نتج عن الأزمتين -وغيرهما من العوامل- من ارتفاع في أسعار الطاقة، وكلف النقل، وإغلاقات تسببت بتخفيض النشاط الاقتصادي العالمي، تعيش مصر وسط هذه الظروف حالة من عدم اليقين، والخوف من المستقبل.
وبينما حقق الاقتصاد المصري في الأعوام الماضية نمواً مرتفعاً نسبياً، وكانت إحدى الدول القليلة جداً التي حققت نمواً خلال عام 2020، بينما حقق العالم انكماشاً، إلا أن ذلك لا يعني أن فئات مختلفة في الاقتصاد تشعر بفوائد هذا النمو.
فالضرر ليس مقتصراً على الفئات الشعبية التي قد تتضرر من خفض قيمة الجنيه، أو من معدلات التضخم المرتفعة في مصر، بل هو أيضاً يشمل القطاع الخاص، وتحديداً القطاع الخاص غير الشامل للصناعات النفطية، والذي يشهد تراجعات طوال الـ12 شهراً الماضية، ويشهد تراجعات أكثر من التقدم خلال السنوات الماضية، بحسب مؤشر مديري المشتريات.
ما هو مؤشر "مديري المشتريات Purchasing Managers index"؟
يحاول المؤشر قياس نشاط القطاع الخاص غير النفطي، وتقدير مدى قوته بشكل شهري، ضمن عدة مؤشرات فرعية تحاول قياس بعض الأمور المهمة بالنسبة للقطاع الخاص.
يشمل المؤشر استبيانات مقدمة من 450 شركة مصرية لا تعمل في قطاع نفطي، بما في ذلك شركات صناعية وخدمية وإنشائية، وغيرها من الشركات.
تحت مؤشر مشتريات المشترين خمس مؤشرات فرعية، يعطى لكل واحد منها وزنه داخل المؤشر الرئيسي، وتعكس الأمور الأهم التي يمكن من خلالها قياس نشاط القطاع الخاص.
وقد رتبت هذه المؤشرات الفرعية بحسب أهميتها كما يلي: الطلبات الجديدة 30%، ما تنتجه الشركة 25%، التوظيف 20%، وقت التسليم من قبل المزودين 15%، المخزون 10%.
يُقرأ المؤشر كما يلي، متى ما حقق المؤشر رقماً أعلى من 50، فذلك يعني توسعاً في النشاط في الشهر المعني، مقارنة بالشهر الماضي، ومتى ما سجل المؤشر أقل من 50 فذلك يعني انكماش النشاط في القطاع الخاص غير النفطي خلال الشهر المعني، مقارنة بالشهر الماضي.
انكماش طويل في مصر
سجل المؤشر في مصر قيمة 46.5 في شهر مارس/آذار 2022، بعد أن سجل 48.1 في فبراير/شباط 2022، وهي أقل قيمة يسجلها الاقتصاد المصري منذ شهر يونيو/حزيران 2020، بسبب آثار جائحة كورونا.
والمؤشر يسجل قيمة تحت الـ50 للشهر السادس عشر على التوالي، ما يعني أن القطاع الخاص غير النفطي يشهد هبوطاً منذ عام ونصف العام دون توقف، ودون وجود أي إجراءات لحل المشكلة.
كما أن هذا التوجه السلبي في القطاع الخاص لا يمكن عكس نتائجه بتسجيل قيمة إيجابية واحدة قادمة مثلاً، فما يعنيه تسجيل قيمة أقل من 50 في المؤشر خلال الأشهر الماضية، هو أن كل شهر كان أسوأ من سابقه لستة عشر شهراً متتالية.
وهذا يعني أن القطاع سيحتاج لشهور متتالية من التحسن والتعافي، لعكس الآثار السلبية للأشهر الماضية فقط.
هبوط حاد بالتوازي مع تخفيض العملة وقرض الصندوق
توازى هذا الانخفاض الحاد في المؤشر، وهو الأحد منذ الأشهر الأولى لجائحة كورونا، مع تخفيض مصر لقيمة الجنيه، وطلب مساعدة صندوق النقد الدولي بشكل رسمي.
وفي تفاصيل المؤشرات الفرعية، فبحسب نقل وكالة Reuters عن خبير اقتصادي، فإن كثيراً من الشركات تشهد سحب عملائها لطلبات الشراء، بسبب ارتفاع الأسعار، وبسبب حالة عدم اليقين في الاقتصاد.
ارتفاع الأسعار العام ناتج عن ارتفاع أسعار المواد الأولية، وتحديداً الطاقة، ممثلة بالنفط والغاز، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الطعام، وهي أمور تدخل في إنتاج كل شيء تقريباً.
يسبب هذا الارتفاع انخفاضاً فيما تنتجه الشركات، وكذلك في الطلبات الجديدة من قِبل عملاء الشركات.
ينعكس الارتفاع في الأسعار على كُلف المنتجين، والذي يظهره ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج، وارتفاع هذه الكلف يعني ارتفاع الأسعار على المستخدمين النهائيين للسلع والخدمات المُنتَجة.
يتسبب ارتفاع الأسعار بتخفيض القدرة الشرائية للمواطنين والشركات، وبالتالي ينخفض الطلب في الاقتصاد، ما يهدد بإمكانية انتهاء حالة النمو الاقتصادي المطرد في الفترة الأخيرة، والدخول في مرحلة من التباطؤ الاقتصادي، أو ربما الانكماش حتى.
كما أن المؤشر يستشف توقعات الشركات عن المستقبل، وقد انخفضت هذه التوقعات لأدنى درجة لها منذ عام 2012.
أزمة أوكرانيا فجّرت اختلالات الاقتصاد المصري
مع أن مصر كانت من الدول القليلة الناجية من فخ الانكماش في عام 2020، وسجلت معدل نمو يعد أحد أعلى معدلات النمو في ذلك العام، فهو أعلى من النمو الذي حققته الصين، والفرق بينه وبين النمو المتوسط الذي حققته دول العالم كبير جداً.
لكن المواطنين المصريين يعانون من ضيق العيش منذ عام 2016، ويجادل اقتصاديون كثر مثل الفرنسي توماس بيكيتي، بأن تحقيق النمو وحده ليس مهماً، بل المهم على من يتوزع هذا النمو في الاقتصاد؟ وما القدرة على جعل النمو مستداماً ومغيراً لواقع حياة الناس؟
رغم هذا الأداء الممتاز للاقتصاد المصري على مستوى بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي، فإن أزمة أوكرانيا جاءت لتكشف عن اختلالات في الاقتصاد.
فالعملة مقدرة بأعلى من قيمتها، وكان من الضروري تخفيضها، والأمر يعكس عجزاً في الميزان التجاري، وخوفاً على احتياطيات البنك المركزي المصري في المستقبل أيضاً.
كما أن الميزانية الحكومية أصبحت مثقلة أكثر بأعباء الدعم الحكومي للسلع والخدمات المختلفة، وفي ظل ارتفاع أسعار القمح عالمياً فالحكومة ستخسر أكثر وأكثر، إذا ما استمرت في دعم الخبز؛ غذاء المصريين الأساسي.
كما أن استمرار الأزمة يزيد من تعقيدات دعم سلع أخرى، فقد تسببت الأزمة أيضاً بارتفاع أسعار الطاقة، وثبات سعر النفط -مثلاً- فوق 100 دولار للبرميل الواحد منذ بدء الحرب.
ولأن الطاقة تدخل في إنتاج كل شيء فذلك يعني أن الدولة ستخسر مليارات الجنيهات، نتيجة لدعم أي سلعة إذا استمرت الأسعار في الارتفاع.
الدعم الحكومي للمُنتجين مفقود
اتخذت الدولة المصرية في الآونة الأخيرة مجموعةً من القرارات المضرة بالمنتجين والتجار، والتي تُسهم بطبيعة الحال في انكماش القطاع الخاص، وتأثره بشكل كبير، بدلاً من توفير الدعم له.
فعدا عن تخفيض قيمة العملة، والذي سيكون له أثر مستقبلي على التضخم في مصر، مثلما أن عام 2016 الذي شهد انخفاضاً آخر للجنيه شهد معه ارتفاعاً حاداً في الأسعار، وسجلت معه معدلات التضخم أرقاماً قياسية.
فتخفيض قيمة الجنيه يعني حتماً ارتفاع أسعار المستوردات من الخارج، ولكون مصر تستورد أكثر مما تنتج، وبعض ما تستورده سلع أساسية لا يمكن العيش دونها، فهذا يعني أن خطر ارتفاع الأسعار سيكون كبيراً ومعمماً.
هناك أيضاً سياسة مصر بخصوص سعر الفائدة، حيث يبقيها البنك المركزي المصري مرتفعة جداً، مقارنة بسعر فائدة البنوك المركزية العالمية، بهدف جذب المستثمرين الأجانب، والأموال الساخنة، التي ترغب بربح في المدى القصير.
لكن رفع سعر الفائدة يُعرف عادة بأنه "سياسة نقدية انكماشية Contractionary Monetary Policy"، تهدف إلى تخفيض النشاط الاقتصادي، بعد أن يكون قد تحفز بشكل كبير.
كما أن سعر الفائدة المرتفع يعني صعوبة الوصول للتمويل، بالنسبة للكثير من فئات الشعب، وللكثير من الشركات المصرية.
فالشركات المتوسطة والصغيرة لا تستطيع في الغالب الوصول إلى مصادر التمويل، ما لم تمتلك رأسمالها الخاص، لأن تكلفة التمويل مرتفعة جداً في مصر.
تعدل مثل هذه المشاكل تحديات كبيرة للنموذج المصري الاقتصادي القائم، والذي يعتمد على الاستدانة من الخارج، مع أسعار فائدة مرتفعة، والتركيز على قطاعات بعينها، مثل إنتاج الغاز، وبعض المشاريع العقارية ومشاريع البنية التحتية.
لذلك من الطبيعي في هذه البيئة أن يشهد القطاع الخاص تراجعاً مستمراً، وسيستمر هذا التراجع إلى أن تتغير الظروف الاقتصادية العالمية، أو تبدأ الدولة المصرية بتقديم نموذج اقتصادي آخر، يتضمن دعم القطاع الخاص المصري، وتمكينه من النمو بدلاً من الانكماش.