هزّ الهجوم الروسي على أوكرانيا أرجاء أوروبا، وأعاد إحياء تحالف الناتو العسكري، كما ساعد في إحياء صراعات حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي في مناطق انفصالية عدة كانت مجمدة. حيث حرّك الهجوم الروسي المشاعر المؤيدة لموسكو داخل أوسيتيا الجنوبية وهي منطقةٌ انفصالية في جورجيا اعترفت موسكو باستقلالها عام 2008. إذ قال رئيسها أناتولي بيبيلوف يوم الخميس 31 مارس/آذار 2022، إن الدولة الانفصالية ستأخذ الخطوات القانونية اللازمة من أجل الانضمام إلى الاتحاد الروسي "في المستقبل القريب"، مضيفاً أنّه سيطرح المسألة في استفتاءٍ عام. فما هي أوسيتيا الجنوبية، ولماذا تطمح إلى أن تصبح جزءاً من روسيا، وما علاقتها بالحرب الدائرة في أوكرانيا؟
ما هي أوسيتيا الجنوبية؟
أوسيتيا الجنوبية هي منطقةٌ انفصالية صغيرة مدعومة من روسيا، وتقع وسط جورجيا من ناحية الشمال، على الجانب الجنوبي من القوقاز، تفصلها الجبال عن أوسيتيا الشمالية، وتمتد جنوباً إلى قرب نهر متكفاري في جورجيا.
وتذكر تقديرات في عام 2012، أن عدد سكان أوسيتيا الجنوبية يبلغ 55 ألف نسمة، وينتمي معظم سكانها إلى العرقية الأوسيتية، ويدين معظمهم بالمسيحية، وهناك مسلمون وأقليات دينية أخرى.
كيف انفصلت عن عن جورجيا؟
كانت أوسيتيا الجنوبية خلال الحقبة السوفييتية تقع ضمن إقليم أوسيتيا الجنوبية ذاتي الحكم في جمهورية جورجيا الاشتراكية السوفييتية. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي أعلنت أوسيتيا الجنوبية استقلالها عن جورجيا عام 1990، وأطلقت على نفسها اسم "جمهورية أوسيتيا الجنوبية".
ردت الحكومة الجورجية بإلغاء الحكم الذاتي في المنطقة وحاولت إعادة ضم المنطقة بالقوة، ما أدى إلى اندلاع حربين بين عامي 1991-1992، والثانية بين عامي 2004 و2008 -حيث كانت جورجيا حينها تستعد للانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي- وأدى النزاع الأخير إلى حصول الانفصاليين والقوات الروسية على السيطرة الكاملة بحكم الأمر الواقع، على إقليم أوسيتيا الجنوبية بالكامل، حيث توجد فيها قوات روسية حتى اليوم.
وقد اعترفت موسكو بأوسيتيا الجنوبية كدولةٍ مستقلة عن جورجيا، إلى جانب إقليم أبخازيا، في أعقاب الحرب الجورجية-الروسية عام 2008، حيث تُقدم لها موسكو الدعم المادي منذ ذلك الحين، كما نشرت القوات الروسية على أراضيها، ومنحت الجنسية الروسية والعديد من المزايا الأخرى لسكانها.
وفقدت جورجيا سيطرتها على تلك المناطق بحكم الأمر الواقع. ومع ذلك لم يعترف أحد بأوسيتيا الجنوبية كدولةٍ مستقلة باستثناء قليل من حلفاء الروس -مثل فنزويلا ونيكاراغوا وسوريا- وثلاث دول صغيرة في المحيط الهادئ.
في حين توطّدت العلاقات بين أوسيتيا الجنوبية وموسكو على مدار السنوات، ليوقعا البَلدان على العديد من اتفاقيات التعاون المشتركة. إذ قالت مايا أوتاراشفيلي، الباحثة في Foreign Policy Research Institute، للصحيفة Washington Post الأمريكية: "أصبحت روسيا هي القوة الوحيدة تقريباً التي تتحكم في أوسيتيا الجنوبية وتدعمها منذ حرب عام 2008، حيث صارت المنطقة معزولةً عن العاصمة تبليسي والبر الرئيسي لجورجيا".
لماذا تريد أوسيتيا الانضمام إلى روسيا ولماذا تؤجل الأخيرة ذلك؟
مستغلاً توقيت الأزمة في أوكرانيا، قال أناتولي بيبيلوف زعيم إقليم أوسيتيا الجنوبية، يوم الخميس إن "أوسيتيا الجنوبية ستتخذ الخطوات القانونية اللازمة من أجل الانضمام إلى الاتحاد الروسي في المستقبل القريب"، بحسب التصريحات المنشورة عبر وكالة Tass الروسية.
حيث أوضح بيبيلوف: "أنا مؤمنٌ بأن الاتحاد مع روسيا هو هدفنا الاستراتيجي. هذا هو سبيلنا، ومصدر إلهام شعبنا. ويجب أن نمضي على هذا الطريق. وسيجري اتخاذ الخطوات القانونية اللازمة في المستقبل القريب، حيث ستصبح جمهورية أوسيتيا الجنوبية جزءاً من وطنها الأم التاريخي: روسيا"، حسب تعبيره.
يُذكر أن أوسيتيا الجنوبية قد قالت من قبل، إنها ترغب في الانضمام إلى روسيا، لكن موسكو هي التي رفضت الفكرة. إذ أوضحت مايا: "أعتقد أن الرفض يرجع لسببين: أولهما أن موسكو هي الحاكمة الفعلية لأوسيتيا الجنوبية، كما تشرف على جوانبها كافة. وثانيهما أن خطوة ضمٍّ رسمي كبيرة أخرى من جانب موسكو ستثير استياء الغرب بشدة".
ولهذا قلل الكرملين هذه المرة أيضاً من أهمية مقترح أوسيتيا الجنوبية، حيث قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، للصحفيين، يوم الخميس، وفقاً لوكالة Reuters البريطانية: "لم نتخذ أي إجراءات، سواء قانونية أو من أي نوعٍ آخر، في هذا الصدد. إذ يتعلّق الأمر باختيار شعب أوسيتيا الجنوبية، الذي نحترمه".
ما هو رد فعل جورجيا، وما علاقة كل هذا بأوكرانيا؟
قال وزير الخارجية الجورجي ديفيد زالكالياني، يوم الخميس، إن "التكهنات بإقامة أي استفتاء" في أوسيتيا الجنوبية حول إمكانية الانضمام إلى الاتحاد الروسي أمرٌ "غير مقبول"، بحسب ما نقلته Tass.
وأعاد الهجوم الروسي ذكريات مؤلمة إلى أذهان الجورجيين الذين عاشوا حرب عام 2008. بينما تجنّبت حكومة جورجيا استفزاز روسيا منذ بدء هجومها على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، حيث قال رئيس الوزراء الجورجي إيراكلي غاريباشفيلي، في 25 فبراير/شباط، إن بلاده لن تنضم إلى الحلفاء الغربيين في فرض عقوباتٍ اقتصادية على روسيا. كما يُزعم أن جورجيا حاولت منع مقاتلين متطوعين من السفر إلى أوكرانيا.
وحين سافرت رئيسة البلاد، سالوميه زورابيشفيلي، إلى بروكسل وباريس، في مطلع مارس/آذار؛ من أجل تقديم الدعم لأوكرانيا، خرج الحزب الحاكم في بلادها ليقول إن رحلتها كانت خروجاً عن النص وإنه يخطط لمقاضاتها.
بينما قالت مايا: "يدعم الجورجيون العاديون أوكرانيا بشدة. كما يقاتل العديد منهم في أوكرانيا كمتطوعين الآن. ولهذا فإن هناك انقساماً شديداً بين الحكومة والشعب حول أوكرانيا".
ويُذكر أن الحكومة الحالية لجورجيا قد وصلت إلى السلطة في عام 2012، واشتهرت باتباعها "استراتيجيةً شديدة الاسترضاء لروسيا. كما أن هناك حالة انفتاحٍ كبيرة بين روسيا وجورجيا، وتبذل الحكومة الحالية قصارى جهدها لعدم استفزاز روسيا".
ومن ناحيةٍ أخرى أكّد زعيم أوسيتيا الجنوبية تحالفه مع روسيا أكثر، حين قال على تليغرام يوم 26 مارس/آذار 2022، إن المنطقة سترسل قواتها للقتال على الجانب الروسي من أجل "المساعدة في حماية روسيا"، بحسب ما نقلته وكالة Agence France-Presse الفرنسية.
ما المناطق الانفصالية الأخرى التي تحظى بدعم روسيا أو تسعى للانضمام لها؟
هناك العديد من المناطق انفصالية في أوروبا مرتبطة بروسيا في الدول الأخرى المجاورة، أو حظيت باعتراف رسمي من جانب الكرملين، وذلك بهدف إضعاف محيط روسيا الإقليمي وبسط نفوذها داخله، وكذلك من أجل خلق مناطق عازلة وموالية لها في الوقت نفسه، لكبح تقدم حلف الناتو تجاهها.
وفي أوكرانيا التي تدور فيها الحرب الآن، هناك إقليمان انفصاليان تم الاعتراف بهما من قبل روسيا، هما دونيتسك ولوغانسك (يطلق عليهما إقليم دونباس)، شرق أوكرانيا، حيث أدى صراع انفصالي في أبريل/نيسان من عام 2014، بعد أسابيع قليلة من ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، إلى انفصال تلك المناطق عن كييف وحصولها على دعم كبير من روسيا، حيث تشير التقديرات الغربية إلى أن موسكو تسعى لضم دونباس كما فعلت مع جزيرة القرم من قبل إليها.
وفي جورجيا أيضاً، يعتبر إقليم أبخازيا وعاصمته سوخومي من مناطق "النزاع المجمد" التي تحظى بدعم روسي كامل، وهي منطقة تقع على الساحل الشرقي للبحر الأسود، وأعلنت استقلالها عن جورجيا عام 1991.
وتعتبر أبخازيا نفسها جمهورية مستقلة عن جورجيا، إلا أنها لا تحظى باعتراف دولي سوى من روسيا ونيكاراغوا وفنزويلا وناورو وسوريا. في عام 1993 أجبرت الجيوش الجورجية على الانسحاب من المنطقة بعد حرب دامت لمدة عام مع الثوار الانفصاليين.
وكانت أبخازيا من قبلُ جمهورية تابعة لجورجيا منذ عام 1931، وقد طالبت الحركة الوطنية الأبخازية "إيدجيلارا"، وتعني الوحدة، عام 1989 بالانفصال عن جمهورية جورجيا. ومع بداية اتجاه جورجيا إلى الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي، تنامى الشعور لدى الأبخاز بخطر فقدان الهوية والذوبان في الجمهورية المستقلة، لتبدأ أولى جولات الصدام والعنف بين الجانبين، في يوليو/تموز 1989 في سوخومي والتي استمرت لسنوات.
واعترفت روسيا باستقلال أبخازيا، في 26 أغسطس/آب 2008، وعلاوة على ذلك، في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، صدق البرلمان الأبخازي على مشروع قانون يخول روسيا لإنشاء قاعدة عسكرية لها في أبخازيا في عام 2009. كما قامت عدة اتفاقيات مثيرة للجدل بين الطرفين، أدت إلى بيع أو تأجير عدد من المناطق الحدودية بين أبخازيا وروسيا.
وهناك أيضاً "مرتفعات قرة باغ" أو "أرتساخ" بالأرمنية، وهو إقليم انفصالي جبلي في جنوب القوقاز، أعلن نفسه مستقلاً تحت اسم "جمهورية أرتساخ"، تدعمه أرمينيا وروسيا، وأراضيه معترف بها دولياً كجزء من أذربيجان. وتعتمد أرتساخ التي تعتبر نفسها ديمقراطية رئاسية مع مجلس تشريعي واحد على أرمينيا، وتتكامل معها بشكل وثيق، وتعمل بحكم الواقع في نواحٍ كثيرة كجزء من أرمينيا.
أسفرت الحرب التي اندلعت بين أرمينيا وأذربيجان، والتي اتُّهمت روسيا بتأجيجها في إقليم مرتفعات قرة باغ في الفترة من 1992-1994 عن مقتل ما بين 30 إلى 35 ألفاً من الأذريين والأرمن، وتشريد حوالي مليون إنسان، وقد دعمت روسيا الأرمن في الإقليم بالسلاح بشكل كبير.
وفي عام 2020، اندلعت حرب مرتفعات قرة باغ بين أذربيجان بدعم من تركيا، وأرمينيا المدعومة من روسيا، ونجح الطرف الأول في الاستيلاء على شوشا، ثاني أكبر مدينة في ناغورني قرة باغ، وهو ما أدى إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين رئيس أذربيجان إلهام علييف، ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لوقف جميع الأعمال العدائية في المنطقة.
وأخيراً، تدعم روسيا أيضاً إقليم "جمهورية ترانسنيستريا" أو (بريدنيستروفيه)، وهي منطقة انفصلت عن مولدوفا في عام 1992، وعاصمتها تيراسبول، وهي تعتبر من مناطق "النزاع المجمد" بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وتقع ترانسنيستريا في الشريط الضيق بين نهر دنيستر والحدود الأوكرانية، ومعترف بها دولياً في الوقت الحالي كجزء من مولدوفا، وهي ذات نفوذ روسي.
بعد حل الاتحاد السوفييتي، تصاعدت التوترات بين مولدوفا وأراضي ترانسنيستريا الانفصالية إلى صراع عسكري، بدأ في مارس/آذار 1992، وانتهى بوقف إطلاق النار في يوليو/تموز من العام نفسه. وكجزء من ذلك الاتفاق تشرف لجنة مراقبة مشتركة ثلاثية الأطراف (روسيا ومولدوفا وترانسنيستريا) على الترتيبات الأمنية في المنطقة منزوعة السلاح، والتي تضم عشرين منطقة على جانبي النهر.
رغم استمرار وقف إطلاق النار فإن الوضع السياسي للإقليم لا يزال دون حل، فقد أصبحت ترانسنيستريا جمهورية شبه رئاسية غير معترف بها، ولكنها مستقلة بحكم الواقع. ويحمل معظم الترانسنيستريين الجنسية المولدوفية، ولكن العديد من الترانسنيستريين يحملون الجنسية الروسية، وكانت المجموعات العرقية الرئيسية في عام 2015 من الروس (34%) والمولدوفيين (33%) والأوكرانيين (26.7%) والبلغار (2.8%).
وفي عام 2003 أيدت روسيا طلب ترانسنيستريا الحفاظ على وجود عسكري روسي طويل الأمد في المنطقة، وبعد ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا في مارس/آذار 2014، طلب رئيس برلمان ترانسنيستريا الانضمام إلى الاتحاد الروسي، وهو ما أثار غضباً من قبل مولدوفا وحلف الناتو، حيث دعا الأخير روسيا إلى إنهاء وجودها العسكري هناك.