شهدت الآونة الأخيرة تراجعات في سعر صرف بعض العملات؛ أبرزها الجنيه المصري، الذي حقق انخفاضاً نسبته 15%، فانخفض من 15.7 جنيهاً للدولار الواحد، إلى 18.25 جنيهاً للدولار، والليرة التركية التي تشهد أزمة منذ عام 2018، حيث ارتفع سعرها من أقل من 4 ليرات للدولار، حتى وصلت الآن إلى نحو 14.6 ليرة مقابل الدولار.
ولعبت البنوك المركزية دوراً مهماً في الحادثتين، لأن استقرار العملة يعتبر إحدى المهام العامة للبنوك المركزية في الاقتصاد.
فكيف تدير البنوك المركزية أسعار صرف العملة؟ وما الإجراءات الممكن اتخاذها للتأثير بهذه الأسعار؟
من تثبيت العملة إلى تعويمها.. نُظم سعر الصرف المختلفة حول العالم
تختلف أنظمة سعر الصرف المعمول بها في الدول، وهناك أنواع كثيرة لهذه الأنظمة، تتدرج من أكثرها جموداً، وهو تثبيت سعر صرف العملة بالنسبة لعملة أخرى، وأكثرها مرونة، وهو سعر الصرف المعوَّم، الذي تتحدد فيه قيمة العملة بشكل حر بناءً على عوامل العرض والطلب في الاقتصاد.
وبين هذين النظامين هناك نظم أخرى كثيرة؛ فقد لا تثبّت الدولة عملتها بشكل مطلق، ولكن تسمح لها بالتحرك ضمن حدود معينة، فقد يقرر البنك المركزي المصري -مثلاً- أن يسمح للجنيه بالحركة الحرة بين 15 و16 جنيهاً للدولار، وهو نظام أكثر مرونة من التثبيت الكامل، لكنه ليس نفسه تعويم العملة أيضاً.
كما أن البنوك المركزية قد تقرر التخلي الكامل عن عملتها المحلية، واستخدام عملة أجنبية في اقتصادها المحلي بدلاً عن عملتها الخاصة.
يترتب على اختيار نظام سعر الصرف متطلبات اقتصادية، أهمها مدى قدرة البنك المركزي على فرض قيود على حركة رؤوس الأموال، أو تحديد أسعار الفائدة بشكل حر في الاقتصاد.
هناك مفهوم اقتصادي مهم يسمى "مثلث المستحيل"، وهو المثلث المكون من حرية تعديل أسعار الفائدة، وحرية تدفق رؤوس الأموال، وتثبيت سعر الصرف، فعلى كل دولة أن تختار اثنين من الخيارات الثلاثة، دون التمكن من تطبيق الثالث في الاقتصاد.
فإما أن تختار الدولة تثبيت سعر صرف عملتها مقابل الدولار، مع التخلي عن حرية تحديد أسعار الفائدة داخل الاقتصاد، بأن تثبت سعر فائدتها لسعر الفائدة الأمريكي، وتسمح بحرية حركة رؤوس الأموال، أو تقيد حركة رؤوس الأموال دون القدرة على تحديد أسعار الفائدة، وهكذا.
وتستطيع الدول -في مثل حالة الدول المتقدمة- ألا تثبت سعر صرفها، وتسمح بحركة رؤوس الأموال بحرية داخل وخارج الاقتصاد، مع القدرة على التحكم في أسعار الفائدة.
ولكل واحد من هذه الخيارات حسناته وسيئاته؛ فتثبيت سعر صرف العملة يعني توفير استقرار لها في السوق، وذلك مفيد جداً في حالة الدول التي يبلغ استيرادها أكثر من تصديرها، لأن هذه الحالة تعني أنّ تغير أسعار الاستيراد ستؤثر كثيراً على معدلات التضخم في الاقتصاد؛ إذا سمحت الدولة للسوق بتحديد سعرها بشكل حر، لأن انخفاض سعر العملة يعني ارتفاع تكلفة المستوردات.
في المقابل؛ فإن حرية تحديد سعر الفائدة مهمة جداً للسوق المحلي، لأن سعر الفائدة المحلي هو السعر الذي تحدد على أساسه أسعار فائدة جميع القروض المحلية، التي تعطيها البنوك للأفراد والشركات، إضافة إلى أن الدول تستدين محلياً، وتُفرض عليها أسعار فائدة بناءً على السعر الرسمي، فتستطيع الدولة أن تخفف من عبء ديونها المحلية إذا كان تستطيع تعديل أسعار الفائدة.
أما العنصر الأخير في المثلث؛ فأهميته كبيرة لجميع الدول، وتحديداً للدول النامية؛ لأنها تحتاج للسماح لرؤوس الأموال بالتدفق من الخارج، وهي مضطرة إلى السماح لها بالتدفق إلى الخارج أيضاً؛ حتى لا يمتنع المستثمرون عن التوجه نحو الاقتصاد، خوفاً من عدم القدرة على تحويل أرباحهم لاحقاً.
تختار الدول نظام سعر الصرف المناسب لها بناءً على تقديرها أهمية هذه العناصر الثلاثة، وتعتبر الدول المتقدمة أن حرية تحديد أسعار الفائدة وحركة رؤوس الأموال هما الأمران الأهم، خصوصاً أن عملتها مستقرة في الأسواق العالمية بشكل عام، فتختار تعويم عملتها بالمطلق.
أما الدول النامية فتختار تثبيت سعر صرف العملة، مقابل التخلي عن أحد عنصري المثلث الباقيين، في الغالب تتخلى عن تحديد سعر الفائدة، لأنها أكثر عرضة لتقلبات سعر صرف عملتها في الأسواق العالمية، مع كل ما يجلبه ذلك من أضرار على المواطنين، نتيجة لارتفاع معدلات التضخم.
لكن قد تتجه بعض الدول النامية إلى ترك نظام سعر الصرف المثبت، والتوجه نحو جعل نظام سعر الصرف أكثر مرونة، كما كانت حالة مصر السابقة، بسبب اشتراط صندوق النقد الدولي أن تعوّم العملة قبل التوصل لاتفاق حول قرض يحتاجه البلد.
لكن العملات المثبتة يحدد سعرها أيضاً عن طريق العرض والطلب في السوق عليها، لكن البنوك المركزية قد تستخدم احتياطاتها بالعملات الأجنبية، لخلق حالة مصطنعة في السوق، هي ما يجعل سعر الصرف ثابتاً في السوق.
الاحتياطات الأجنبية للبنوك المركزية
في حال قررت دولة ما، أن تثبت عملتها، فإنها ستكون مجبرة على شراء وبيع عملتها حسب سعرها في السوق، لتحقيق السعر الذي تريد التثبيت له.
لكون العملة مثل أي منتج آخر في العالم، تباع وتشترى في السوق، ويتحدد سعرها بناءً على الطلب والعرض عليها، فذلك يعني أن العملة لن تكون ثابتة القيمة وحدها، ودون تدخل من البنك المركزي.
لذلك فإن البنوك المركزية في حالة انخفاض قيمة العملة، نتيجة لارتفاع عرضها في السوق، تقوم بشراء العملة عن طريق استبدالها بعملة أجنبية تمتلكها؛ مثل الدولار، فيرتفع الطلب بشكل اصطناعي على العملة المحلية.
لكن هذا يعني أن البنك المركزي سيستنزف احتياطاته الأجنبية، وهو محتاج للإبقاء على كثير منها لديه، للتدخل كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
تعتبر تحويلات العاملين من الخارج، والسياحة، والتصدير أبرز طرق تزويد الاحتياطات الأجنبية، فالعاملون في الخارج يقبضون ثمن عملهم بعملات أجنبية، ثم يحولونها إلى الداخل، وقد يقررون استثمارها في العقار مثلاً، ويحتاجون لفعل ذلك أن يحولوا الدولارات إلى العملة المحلية، ثم شراء العقار بهذه العملة المحلية، وهذا يعني أن البنك المركزي -ولو بشكل غير مباشر- سيمنحهم من العملة المحلية التي يملكها، مقابل أن يمنحوه الدولارات التي يملكونها.
أما السياح، فهم يأتون إلى البلاد بعملات أجنبية، يقومون بتحويلها داخل البلاد، ليستطيعوا الاستهلاك داخلها، وأخيراً فإن الشركات المصدّرة تقبض ثمن منتجاتها بالعملة الأجنبية أولاً، ثم تحولها إلى العملة المحلية، لتستطيع الإنفاق داخل البلاد.
ولكن المستوردين يحتاجون للدولارات من البنك المركزي، ليستطيعوا دفع ثمن ما يستوردونه للمنتجين الأجانب، فالمستوردات تستنزف احتياطات البنك المركزي أيضاً.
تعاني مصر وتركيا من عجز في ميزانهما التجاري؛ بمعنى أن مستوردات البلدين أعلى مما تصدّران في أغلب الأعوام، وذلك يستنزف احتياطاتهما الأجنبية، التي يعوّضانها بمصادر أخرى للعملات من الخارج.
لكن السياحة تعرضت لضربة عنيفة بسبب جائحة كورونا في البلدين، وجاءت الأزمة الأوكرانية لتخفض عدد السياح الروس والأوكرانيين إليهما أيضاً.
كيف يتحدد سعر الصرف على المديَين الطويل والقصير؟
تحدد النظرية الاقتصادية عوامل مختلفة تؤثر في أسعار صرف العملات، لكنها تضع عاملين رئيسيين على كل من المدى القصير والطويل، فأسعار الفائدة هي أهم عوامل تحديد سعر صرف العملة على المدى القصير، وفي المقابل فإن الميزان التجاري (الصادرات-الواردات) هو العامل الأساسي على المدى الطويل.
لكن العملة لا يتم تداولها في السوق بشكلها النقدي فقط، بل أيضاً يدخل في ذلك تداول الأصول المالية المقوّمة أو المسعّرة بالعملة، مثل الأسهم والسندات والسلع والخدمات والودائع البنكية وغيرها.
يعبر سعر الفائدة في بلد ما، عن مقدار العائد المتوقع على الاستثمار في المدى القصير؛ فكلما كان سعر الفائدة أعلى، كان العائد على الودائع البنكية أعلى أيضاً، وكذلك على الاستثمار في السندات.
وذلك يعني أن ارتفاع سعر الفائدة يعني جاذبية أكبر لشراء العملة، عن طريق الاستثمار في الأصول المالية المقومة بها، وانخفاض سعر الفائدة يعني انخفاض هذه الجاذبية، وخروج الاستثمارات من البلاد، وبالتالي ارتفاع عرض العملة وانخفاض قيمتها.
أما على المدى البعيد؛ فإن العامل الأساسي هو الميزان التجاري، فكلما كانت الدولة قادرة على أن تصدّر أكثر مما تستورد، عني ذلك أن الطلب على عملتها سيكون أعلى، لأن من يريد الاستيراد من البلد عليه أن يشتري عملتها أيضاً.
والعكس صحيح في حال كانت المستوردات أعلى من الصادرات؛ لأن ذلك يعني أن المواطنين سيحتاجون لشراء العملات الأجنبية، مقابل بيعهم للعملة المحلية، وذلك يعني ارتفاع عرض العملة المحلية، وانخفاض قيمتها.
لهذا اضطرت مصر إلى رفع سعر فائدتها مؤخراً، لأن ذلك يعني زيادة جاذبية الجنيه وشرائه، وكذلك فعلت روسيا عندما بدأت العقوبات الغربية عليها بسبب هجومها على أوكرانيا، والذي تسبب بانخفاض قيمة الروبل أمام الدولار في البداية.
لذلك فإن دولاً مثل تركيا ومصر ستستمر معاناتها من أزمات تقلبات سعر صرف العملة، حتى تتمكن من تحقيق فوائض مستدامة في الميزان التجاري، أو توفير بدائل للعملة الأجنبية بشكل مستدام.