بعد مرور 9 أشهر على إعلان قيس سعيّد على إجراءات استثنائية في البلاد، وقع يوم الإثنين 21 مارس/آذار 2022 على مرسوم الصلح الجبائي في تونس، والذي يقول إنه بموجبه "سيستعيد أموال الشعب من رجال الأعمال الفاسدين".
تنفيذ الصلح الجبائي في تونس لن يكون سهلاً، بل سيمُر بإجراءات دقيقة حددها المرسوم الذي وقّع عليه الرئيس، "عربي بوست" ومن خلال هذا التقرير سيجيب على سؤال: كيف سيستعيد قيس سعيّد هذه الأموال؟
وحسب ما أعلنه قيس سعيّد، فإنه من خلال الصلح الجبائي في تونس يسعى إلى استرجاع حوالي 4.8 مليار دولار من أموال الدولة، وبالتالي سيُغلق نهائياً ملفات فساد رجال الأعمال، ويقطع الطريق على كل من يريد أن يبتز رجال الأعمال بسبب ملفاتهم الفاسدة.
وسيخُص الصلح الجبائي في تونس رجال أعمال يقول عنهم سعيّد إنهم تحصّلوا على فوائد ومنافع مالية خلال حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، من تراخيص حصرية لممارسة أنشطة إقتصادية، ورشوة، واستيلاء على المال العام.
أصهار بن علي.. أبرز المتورطين
من بين رجال الأعمال الذين سيشملهم الصلح الجبائي في تونس يوجد سليم شيبوب، زوجة ابنة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، والذي استغل قربه من الرئيس لتجميع ثروة ضخمة.
وقد أكدت مصادر مقربة من سليم شيبوب وفريق دفاعه القانوني لـ"عربي بوست" أن مرسوم الصلح الجزائي في تونس الذي أصدره سعيد مساء أمس الإثنين 22 مارس/آذار 2022 في الجريدة الرسمية سيشمل موكّلهم.
ورغم أنه لا ينحدر من عائلة ثرية أو معروفة بسيطرتها على الاقتصاد، فإن شيبوب تقلّد رئاسة أكبر الأندية الرياضية في تونس وهو الترجي، وعُرف باستعماله لسلطته وقربه من بن علي حتى في الرياضة.
وفور هروب بن علي في 2011، هرب شيبوب بدوره إلى الإمارات، لكنه عاد بعد فوز نداء تونس في الانتخابات التشريعية، وتحالف الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي مع حركة النهضة وتلقيه وعوداً بتسوية وضعيته القانونية.
أبرم شيبوب صلحاً مع الدولة بوساطة من هيئة الحقيقة والكرامة، ودفع ما يُقارب 100 مليون دولار، ولكن تم نقض الصلح والطعن فيه ليجد شيبوب نفسه حالياً في السجن بسبب إحدى قضايا الفساد المالي.
وحالياً يدرس الفريق القانوني، حسب مصادر "عربي بوست"، ملفّ سليم شيبوب تمهيداً لإيداع مطلب لإبرام صلح جزائي مع الدولة كما رغب موكلهم المودع في السجن منذ عودته من الإمارات العربية.
أيضاً، ومن بين أبرز رجال الأعمال في تونس الذين سيشملهم مرسوم الصلح الجبائي في تونس، مروان المبروك، وهو أيضاً أحد أصهار زين العابدين بن علي.
وتُرجح مصادر تحدث معها "عربي بوست" أن "يشمل مروان المبروك الصلح الجزائي في تونس الذي أعلن عنه الرئيس قيس سعيّد، أو بالأحرى المطالبة بدفع أموال كتعويض".
وتضخمت ثروة المبروك وثروة عائلته بعد زواجه من ابنة الرئيس، لتصبح مجموعة المبروك من أكبر المجمعات الاقتصادية في تونس، وتملك "مونوبري"، وشركة الاتصالات "أورانج تونس" وبنك "بيات".
وبعد الثورة تمت مُصادرة جزء من أموال المبروك، لكن لم تُسلط عليه أي عقوبات سجنية ولم يقع اعتقاله، بل إن المبروك استعاد أمواله، لأنه حظي بحماية سياسية من يوسف الشاهد، الذي ترأس الحكومة بين 2016 و2019.
وأكدت مصادر "عربي بوست" أن الشاهد كان قد راسل الاتحاد الأوروبي سنة 2018 لحذف اسم المبروك من قائمة الـ48 المعنيين بتجميد أموالهم في الخارج منذ 2011، وهو ما استجاب له الاتحاد الأوروبي في يناير/كانون الثاني 2019.
وكانت المحكمة الإداريّة قد أصدرت 2018 أحكاماً بالتّفويت في أملاك المُصادرة لمروان المبروك دون أن يتمّ تنفيذها، إذ لم تتمكّن الدولة إلى الآن من استرجاع الأموال المنهوبة المتخلّدة بذمّته.
463 ملفاً تنتظر الصلح
بعد سقوط نظام زين العابدين تم إحداث لجنة سُمّيت بـ"اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد"، وكانت مهمّتها الكشف عن حالات الفساد والرشوة، للأشخاص الذين استغلوا موقعهم في الدولة أو علاقتهم بالرئيس.
اللجنة تكلفت بتجميع المعلومات والوثائق والشهادات التي من شأنها أن تُمكن من تقصي الحقائق بخصوص ارتكاب جرائم فساد مالي أو إداري، وانتهت في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 بتقرير نهائي بأكثر من 500 صفحة، تضمن بعض أسماء المتورطين دون ذكر أسمائهم، وبالإشارة فقط للحرف الأول من الاسم والنسب.
التقرير ترتب عنه فتح 10 آلاف قضية مُحالة على المحاكم من طرف اللجنة التي تحوّلت بعد إنهاء عملها إلى هيئة دستورية تُسمى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
يقول عز الدين سعيدان، عضو اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة، إن "اللجنة لم تضمن في تقريرها إلا التجاوزات الموثقة بالحجج والشهادات والمؤيّدات القانونية، وأحالت 463 ملفّ فساد متكاملاً إلى القضاء منذ نهاية سنة 2011، لكن لم يبتّ القضاء في أي منها سوى المتعلقة بزين العابدين بن علي وزوجته وأصهاره".
وأضاف سعيدان في حديثه لـ"عربي بوست" أن "463 ملفّ فساد لا يعني تورط 463 رجل أعمال أو مسؤولاً، إذ يُمكن أن يشمل ملفّ واحد أكثر من شخص كما يُمكن أن يُشمل نفس الشخص بأكثر من ملفّ".
وأشار المتحدث إلى أن "القضاء لم ينظر سوى في الملفات التي تخص غير المتواجدين في تونس من عائلة بن علي وأصهاره أساساً، فيما تمّ تجاهل ملفات الفساد التي تخص رجال أعمال ومسؤولين موجودين في تونس".
لكن في المقابل اعتبر سعيدان أنه من الضروريّ تحديث الملفات التي أنجزتها الهيئة منذ سنة 2011، خاصة من بعض المعنيين قاموا بتسوية وضعيتهم ومخالفاتهم المالية أو الإدارية.
كيف ستعمل لجنة الصلح الجزائي في تونس؟
ستتكفّل اللجنة الوطنية للصلح الجزائي في تونس، التي أعلن عنها الرئيس بتنزيل مضامين المرسوم الذي أعلن عنه قيس سعيّد، هذا الأخير الذي يبقى له الحق في إعفاء أي عضو من أعضائها.
ووفق تقدير المحامي والخبير القانوني رابح الخرايفي الذي تحدث لـ"عربي بوست"، فإن "المرسوم يمنح للسلطة التنفيذية، ممثلة في اللجنة الوطنية للصلح الجزائي في تونس صلاحيات واسعة، منها المنع من السفر، والتعهد تلقائياً بالصلح".
وحسب الخرايفي، فإن "اللجنة هي التي تُحدد رجل الأعمال المعني بالصلح، وتتولى إبلاغه بأنه مُطالب بتعويض مالي للدولة كبديل عن عقوبة سجنية لارتكابه تجاوزات أو نهبه للمال العام".
وستدعو اللجنة، حسب ما جاء في مرسوم الصلح الجزائري في تونس كل رجال الأعمال والمسؤولين من مرتكبي تلك المخالفات والمعنيين بقضايا الفساد لتقديم مطلب في الصلح في أجل 15 يوماً من تاريخ دعوتهم.
كما حدد المرسوم أجل شهر لتقديم مطلب للصلح الجزائي من طرف رجال الأعمال الذين بادروا، و15 يوماً لرجال الأعمال الذين تواصلت معهم اللجنة، ويُحتسب الشهر من تاريخ إعلان اللجنة الوطنية للصلح الجزائي عن انطلاق نشاطها، وفق المرسوم.
مشروع أو مبلغ مالي لتحقيق الصلح
وسيتقدم رجل الأعمال بمطلب الصلح الجبائي في تونس، وسيتضمّن مُقترحاً بالمبلغ المقترح أداؤه وآجال تسديده، أو المشروع المقترح إنجازه، والضمانات المالية لتنفيذه.
وبالنسبة لقيمة التعويض، فسيتم احتسابها مع الأخذ بعين الاعتبار التضخم المالي، وتغيّر قيمة العملة منذ تاريخ المخالفة، وبعد إبرام الصلح الجزائي وتحقيق المصالحة تُسوّى الوضعية القانونية للمعنيين، وتُلغى كل القضايا المعروضة على القضاء، وإطلاق سراح المعتقلين.
وفي حال عدم التزام رجال الأعمال المعنيين، يقول المحامي والخبير القانوني رابح الخرايفي لـ"عربي بوست" إنه "سيُستأنف التتبع الجزائي، أو المحاكمة، أو تنفيذ العقاب".
ويقول مرسوم الصلح الجزائي في تونس، الذي وقَّعه الرئيس أن "رجال الأعمال الأكثر تورطاً في الفساد، سيُنجزون مشاريع في الجهات والمناطق الأكثر فقراً".
الخبير في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني حسين الديماسي قال إن "سعيّد أحدث بمرسوم الصلح الجزائي في تونس، لجنة بوزارة المالية تُسمى لجنة متابعة تنفيذ اتفاقيات الصلح وإنجاز المشاريع بالجهات".
وأضاف الديماسي في تصريح لـ"عربي بوست" أن "هذه اللجنة ستضم أهالي المنطقة المعنية بإنجاز المشروع، ومهمتها متابعة تنفيذ اتفاقيات الصلح واختيار المشاريع حسب احتياجات الجهة ومتابعة إنجازها".
وستقوم هذه اللجنة، حسب الديماسي بترتيب رجال الأعمال ترتيباً تنازلياً، من الأكثر مبلغاً إلى الأقل، ثم تحديد المشروع الذي يتعين على كل منهم إنجازه، وذلك بناء على الترتيب الرسمي المعتمد لدى الإدارة المركزية بخصوص المناطق الأكثر فقراً إلى أقلّها.
بعد ذلك تقوم بإعلام المنتفع بالصلح الوقتي بالمشروع الذي سيعهد إليه، ومن ثمّ فسح المجال أمامه والمجلس الجهوي أو الهيكل العمومي المعني بالمشروع لإبرام عقد بينهما في أجل أقصاه 3 أشهر من تاريخ دعوته من طرف اللجنة.
أما دور اللجنة في هذه المرحلة فيتجلى في متابعة تنفيذ اتفاقيات الصلح وإنجاز المشاريع بالجهات، فيما ستُحدث على مستوى كل محافظة معنية بمشاريع الصلح الجزائي لجنة جهوية لمتابعة وتنسيق المشاريع.
كيف سيُحدد المبلغ المالي؟
بعد تقديم رجل الأعمال الراغب بالصلح الجزائي مع الدولة لمطلب للجنة التي أقرّها الرئيس التونسي للتكفّل بالموضوع، تتولى اللجنة التأكد من توفر الشروط الشكلية للمطلب والقيمة المرجعية للمبالغ المالية الواجب دفعها، واللجنة لها الحق في التفاوض.
وفي حالة حصول الاتفاق يقع إبرام الصلح في حدود المبلغ المالي المستولى عليه، أو قيمة المنفعة المتحصل عليها أو مقدار الضرر الذي طال المال العام مثلما تم تحديده من قِبل اللجنة، ولكن تضاف إليه نسبة 10 % عن كل سنة من تاريخ حصول ذلك.
ويُصبح الصلح الجبائي في تونس نهائياً إذا أفضى إلى أداء كامل المبالغ المتوجب دفعه، أو بعد إنجاز المشاريع المتعهد بها إذا كان خيار طالب الصلح بعد مصادقة اللجنة الوطنية للصلح الجزائي إنجاز مشاريع بنفس قيمة المبالغ المطالب بدفعها.
ففي حال اختار المعنيّ بالصلح الجزائي إنجاز مشروع وليس دفع مبلغ مالي، فإن اتفاق الصلح يتخذ صبغة الصلح الوقتي شريطة تأمين مبلغ مالي لا يقل عن 50% من قيمة المبالغ المحددة من قِبل اللجنة.
أين ستذهب العائدات المالية؟
المحلل والخبير الاقتصادي حسين الديماسي قال إن "العائدات المالية التي تتأتى من الصلح الجزائي في تونس" سيقع إيداعها بحساب مُسمى بحساب عائدات الصلح الجزائي.
وأضاف الديماسي في تصريح لـ"عربي بوست" أن "80٪ العائدات المالية ستُوجّه لتمويل إنجاز مشاريع تنموية في الجهات الداخلية بداية بالأكثر فقراً، فيما ستُوجّه الـ20% المتبقية من العائدات المالية كمساهمات في رأس مال الشركات الأهلية التي أحدثها الرئيس التونسي بمرسوم أصدره كذلك في ذكرى استقلال البلاد عن فرنسا".
وأشار الديماسي إلى أن مرسوم صلح الجزائي في تونس نصّ على أنه في حالة قدم رجل الأعمال المعني عرضاً بإنجاز مشاريع بمنطقة الأكثر فقراً، فهو من يتكفّل بإنجازه، وعليه ضمان تواصل نشاط المشروع طيلة 10 سنوات بعد تركيزه.
نقابة رجال الأعمال ستراقب
اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية التي تمثل نقابة رجال الأعمال وأرباب العمل في تونس لم تُصدر إلى حدّ الساعة أي موقف رسمي من مرسوم الرئيس قيس سعيّد الصادر في الجريدة الرسمية ليلة الإثنين.
لكن في المقابل، أكدت مصادر من داخل المنظمة لـ"عربي بوست" أن النقابة تساند غلق الملفات وإنهاء ابتزاز رجال الأعمال منذ سنة 2011، وستكتفي حالياً بمراقبة تطبيقه عبر تشكيل اللجان وغيرها، وستتحرّك دفاعاً عن رجال الأعمال في حال رصد أي انحراف في التطبيق.
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”