دخل الهجوم على أوكرانيا شهره الثاني دون أن تلوح في الأفق نهاية عسكرية حاسمة كانت تخطط لها موسكو، فهل تنجح حرب الاستنزاف في إفشال خطة بوتين رغم أن آزوف أصبح بحيرة روسية؟
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا قد بدأ 24 فبراير/شباط الماضي، وسط توقعات بأن تسقط العاصمة كييف بين أيدي الروس خلال أسابيع أو حتى أيام، لكن الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا والعقوبات غير المسبوقة على روسيا جعلا المهمة لا تسير على هوى الكرملين. ويبدو أن روسيا بدأت تنفذ بأوكرانيا ما طبقته في حربها بسوريا دعماً لنظام بشار الأسد، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان بريطانية.
بحر آزوف يصبح بحيرة روسية
لم تتمكن روسيا، خلال الشهر الأول من القتال، من حسم الحرب في أوكرانيا لصالحها، ولم تسيطر على المدن الرئيسية في البلاد باستثناء خيرسون في الجنوب، وتخوض حرب شوارع في ماريوبول، ولم تتمكن من اختراق أطراف العاصمة كييف، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
لكن الحرب الروسية الأوكرانية انتقلت إلى مرحلة ثانية بلجوء موسكو إلى أسلحة أكثر تطوراً لحسم المعارك، باستخدام الصواريخ فرط صوتية "كينغال"، وتوسع المعارك نحو الغرب الأوكراني ولو عبر ضربات جوية وصاروخية.
فيما يتواصل تدفق الأسلحة الغربية على الجيش الأوكراني، خاصة مضادات الطيران والدروع، ما يزيد من قدرته على الصمود ويطيل من أمد الحرب، بحسب توقعات الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال جولته الأخيرة إلى أوروبا والتي وصف خلالها نظيره الروسي بوتين بأنه "جزار".
ويعتبر أبرز تقدم حققه الجيش الروسي خلال الشهر الأول من الحرب، هو تمكنه من ربط مناطق سيطرته في محافظة خيرسون (جنوب) بإقليم دونباس الانفصالي في الشرق، مروراً بماريوبول التي أعلن عن سيطرته على أكثر من نصفها، بما فيها ميناء المدينة ومقر بلديتها.
وأقرت وزارة الدفاع الأوكرانية في 18 مارس/آذار بأنها "فقدت الوصول إلى بحر آزوف مؤقتاً"، ما يعني سيطرة القوات الروسية على جميع سواحل بحر آزوف، ما حوله عمليا إلى بحيرة روسية.
ورغم ذلك ما زالت القوات الأوكرانية وكتيبة آزوف التي تضم قوميين متشددين، يدافعون عن ماريوبول من شارع إلى شارع، في مواجهة تقدم الجيش الروسي والقوات الشيشانية التابعة له.
ورغم سيطرة الروس على كامل شريط الساحل الأوكراني المطل على بحر آزوف وتحييد الأسطول الأوكراني من اليوم الأول للحرب، فإن روسيا تعرضت لضربة قوية جرحت كبرياء أسطولها الحربي؛ حيث أعلنت قيادة القوات البحرية الأوكرانية، في 24 مارس/آذار، إغراقها السفينة الروسية "أورسك" في بحر آزوف، حين كانت متواجدة قرب مدينة برديانسك الساحلية.
وأظهر فيديو متداول، اشتعال نيران كثيفة في سفينة روسية راسية بالميناء، ومغادرة سفينتين أخريين الميناء بعدما أصيبتا بأضرار متفاوتة.
بالمقابل أعلن الجيش الروسي سيطرته على 93 بالمئة من مساحة إقليم لوغانسك الانفصالي، وعلى 54 من إقليم دونيتسك الانفصالي، الذي يضم ماريوبول. ويشكل لوغانسك ودونيتسك معا إقليم دونباس، والذي كان ثلثاه تحت سيطرة القوات الأوكرانية، والثلث الآخر بيد الانفصاليين، قبل انطلاق العملية العسكرية الروسية.
ويعد لوغانسك محاذياً للحدود الروسية وأصغر مساحة من دونيتسك، لذلك تمكنت القوات الروسية من التوغل فيه بسرعة، بينما دونيتسك فيشهد مقاومة شرسة، خاصة من عناصر كتيبة آزوف، المتمركزة في ماريوبول.
لا سيطرة روسية تامة على السماء
رغم كل ما تمتلكه روسيا من تفوق جوي ساحق، إلا أنه وبعد مرور 30 يوماً، ما زالت الطائرات الأوكرانية من نوع سوخوي 27 تحلق في سماء المعركة وتشتبك مع نسخ مطورة عنها من سوخوي 35.
حيث ما زالت الطائرات العسكرية الأوكرانية النفاثة تنطلق من مطارات سرية للاشتباك مع المقاتلات الروسية، أو استعمالها كطعم لجذبها إلى مدى الصواريخ المضادة للطائرات.
ويعتبر عدم قدرة الجيش الروسي على تدمير الطائرات الحربية الأوكرانية والمضادات الجوية إحدى أكبر إخفاقاته في هذه الحرب، وتجلى ذلك في سقوط عدد غير معروف بدقة من طائراته. وبحسب أرقام وزارة الدفاع الأوكرانية، التي يصعب التحقق من دقتها، فإنه تم إسقاط 127 مروحية و117 مقاتلة و56 مسيرة روسية.
ولعبت مسيرات الجيش الأوكراني دوراً بارزاً في قصف أرتال الجيش الروسي وخطوط إمداده، التي أصبحت تطول وتتشعب، ما شكل عبئاً إضافياً على تقدمه، ما يكشف حجم الخطأ في التخطيط لهذه الحرب من الجانب الروسي.
استخدام أسلحة فتاكة
وأمام إخفاق الروس بتحقيق نصر سريع واشتداد المقاومة الأوكرانية خاصة في المدن، بدأ الجيش الروسي باستعراض قوته عبر استخدام أسلحة أكثر فتكا على غرار الصواريخ فرط صوتية "كينغال" أو "الخنجر"، التي تفوق سرعتها سرعة الصوت بعشر مرات، والتي يصعب على المضادات الجوية إسقاطها.
كما لا يستبعد أن تلجأ موسكو إلى إخراج أقوى مقاتلاتها من الجيل الخامس "سوخوي 57″، لتجريبها في حرب حقيقية، وفرض سيادتها الجوية.
بينما وعد الرئيس الأمريكي جو بايدن، بتزويد أوكرانيا بـ 100 طائرة مسيرة من نوع "الشفرات القاتلة"، وهي مسيرات انتحارية تصطدم بالهدف وتفجره.
وتزود الدول الغربية أوكرانيا بأنواع مختلفة من مضادات الطيران قصيرة المدى والمحمولة على الكتف، وكذلك مضادات الدروع، وهناك تخوف من الجانبين أن يتم استعمال أسلحة غير تقليدية في هذه الحرب، لحسمها بسرعة سواء كانت كيميائية أو بيولوجية أو حتى نووية.
تتحدث وزارة الدفاع الروسية عن أنشطة أمريكية بيولوجية عسكرية في أوكرانيا، وامتلاكها لوثائق تظهر 30 مختبراً في 14 مدينة وبلدة أوكرانية، كما تزعم وجود برنامج نووي أوكراني سري.
بالمقابل، تحذر الولايات المتحدة من إقدام روسيا على استخدام الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية في حربها على أوكرانيا، تحت ذريعة معلومات مضللة تنشرها موسكو وترددها الصين.
ويبحث البيت الأبيض تشكيل فريق من الخبراء للخروج بخطط تتعلق بالرد المحتمل للولايات المتحدة، إذا ما استخدمت روسيا أسلحة دمار شامل، سواء كيميائية أو بيولوجية أو نووية بأوكرانيا.
واتهام كل طرف الآخر باستعداده لاستعمال أسلحة دمار شامل، قد يكون تهيئة للرأي العام العالمي لتقبل استعمال أسلحة كيماوية أو بيولوجية بشكل محدود، كما حدث في سوريا، لكن استعمال أسلحة نووية من شأنه أن يدفع الحرب إلى أسوأ السيناريوهات.
الحرب تتمدد على كامل أراضي أوكرانيا
في الأيام العشرة الأولى من الحرب، تركز القتال في النصف الشرقي من أوكرانيا، الأكثر كثافة سكانية، بينما كانت المنطقة الغربية بعيدة نسبياً عن أجواء الحرب والقتال، وشكلت قاعدة خلفية للتزود بالسلاح من الغرب وأيضا لاستقبال النازحين والراغبين باللجوء إلى البلدان الأوروبية المجاورة.
غير أن القوات الروسية وإن لم تتوغل بعد نحو الغرب، إلا أنها تقوم بشن غارات وهجمات صاروخية في مدينة لفيف التاريخية التي تعتبر عاصمة الغرب الأوكراني.
حيث كثفت موسكو من قصف لفيف وضواحيها، متهمة إياها بأنها أصبحت مركزاً لتجميع المقاتلين الأجانب، على غرار قصف صاروخي استهدف قاعدة عسكرية تضم مئات المقاتلين الأجانب، ببلدة يافوريف، القريبة من الحدود البولندية، في 13 مارس/آذار، وخلف مقتل العشرات (35 حسب الرواية الأوكرانية، و180 حسب روسيا).
غير أن المعارك ما زالت مستمرة في القوس الممتد شمالا من كييف وتشيرينهيف، ثم مدينتي سومي وخاركيف في الشمال الشرقي، مروراً بإقليم دونباس في الشرق، ثم ماريوبول وميكولايف في الجنوب.
وهذا القوس الذي أصبح مكتملاً ومتواصلاً، بعد تغيير روسيا استراتيجيتها من اقتحام المدن الكبرى إلى محاصرتها وتحييدها والتقدم نحو مدن أخرى.
وفشلت لحد الآن محاولات اقتحام كييف من الشمال والشمال الغربي، ولم تتمكن القوات الروسية من تطويقها من الغرب لقطع خط الإمداد الرئيسي، لذلك لجأت إلى الالتفاف على مدينة سومي والتقدم نحو العاصمة لمحاصرتها من الشرق.
وفي الجنوب، أخفقت القوات الروسية في اقتحام مدينة ميكولايف، وحتى بعدما التفت عليها واتجهت شمالاً للسيطرة على محطة "جنوب أوكرانيا" النووية، جوبهت بمقاومة شديدة أجبرتها على التراجع والتركيز على جبهات أخرى.
وتركز القوات الروسية في هذه المرحلة على التوغل في محافظة زابوروجيا الواقعة بين خيرسون وخاركيف، ما سيسمح لها بمحاصرة القوات الأوكرانية في دونباس وقطع خطوط إمدادها.
وخلال 30 يوماً، تمكنت روسيا من ربط جبهات القتال من الشمال إلى الشرق والجنوب، لكنها ما زالت عاجزة عن دخول معظم المدن الرئيسية (كييف، تشرنيهيف، سومي، خاركيف، ميكولايف) بينما تخوض ماريوبول معركة البقاء.
وهذا الوضع العسكري من شأنه تحويل أوكرانيا إلى مستنقع لاستنزاف الجيش الروسي، لكنه سيتسبب في خسائر كبيرة بصفوف المدنيين، وقد يدفع موسكو إلى تسوية مدن بالأرض مثلما فعلت في العاصمة الشيشانية غروزني ومدينة حلب السورية، وقد تلجأ إلى استعمال أسلحة أكثر فتكاً، إذا شعرت بأنها تقترب من خسارة الحرب.